مبدأ شرعية الجرائم والعقوبات في القانون الليبي

إبراهيم بلغيث

محامي لدى التعقيب بتونس و امام المحكمة الفريقية لحقوق الانسان و الشعوب و المحكمة الجنائية الدولية  له خبرة في تدريس القانون وعدد من المقالات القانونية. صدر له مؤلف بالفرنسية سنة 2022 حول مهنة المحاماة في تونس " هيئة في فوضى ..معبد بدون حراس"  وهو رئيس تحرير مجلة موازين و مستشار قانوني لجمعية عدالة للجميع

لا يكاد يخلو قانون وضعي جنائي او جناحي من تكريس ذلك المبدأ [1] سواء بالتأكيد على وجوب نص سابق او بالتأكيد على قاعدة عدم رجعية القوانين الجزائية في الزمن.

قد يبدو من البديهي وجود مثل تلك القاعدة في القوانين الداخلية خاصة إذا كانت الدولة المعنية مصادقة على العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية على غرار ليبيا أو الميثاق الافريقي لحقوق الانسان والشعوب وتجدر الإشارة هنا ان الميثاق العربي لحقوق الإنسان ينص كذلك على ذلك المبدأ في ماته 15 :" لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص تشريعي سابق، ويطبق في جميع الأحوال القانون الأصلح للمتهم." الا ان التذكير بتأصيل المبدأ يظل من الأهمية بمكان. يكرس مبدأ علوية القانون من الناحية الإجرائية او الشكلية ويمكن تأصيله بأسباب تاريخية تزامنت وتطورت مع مفهوم الدولة الحديثة ومختلف المحطات التي عرفها الفكر الإنساني في عقلنة علاقة الفرد بالسلطة ومن ثمة الدولة و القانون ولما كان الامر يتعلق بالشرعية و التشريع كان من المنطقي ان تتولى الدولة ممثلة في أجهزتها المختصة و عبر القانون بوصفه التعبير عن السيادة الوطنية و ممارستها باسم المجموعة او المجتمع وهي الوحيدة التي لها شرعية تحديد السلوك المجرم بوصفه تهديدا او ضررا للمجتمع او الشعب التي تمثله على ان ممارسة هذا الاختصاص من الدولة او بصفة اخص الجهاز التشريعي ليس مطلقا بل يخضع لضوابط في الشكل و المحتوى وهو ما يسمح بالتوقي من تسلطه و عدم نيله من سائر المبادئ العامة التي تنظم المواد القانونية بصفة عامة و المادة الجنائية بصفة اخص على ان هذا التقييد لا يقف عند السلطة التشريعية اذا انها بممارسة ما لها من مهام ترسم حدود ممارسة القاضي للسلطة القضائية فدون نص سابق الوضع لا يخل للقاضي قطعا اختراع جرائم او توقيع عقوبات لم ينص عليها المشرع بما يضمن الحقوق و الحريات لجهة الفرد و الفصل والتوازن بين السلط لجهة المجموعة .

في غالب الأحيان يقع التركيز على الجانب الموضوعي الأصلي عند التعرض لمبدأ شرعية الجرائم و العقوبات و اغفال الجانب الاجرائي و الحال ان ذلك التقصير غير مبرر ذلك أنه نظرا لأهمية الإجراءات و العلاقة الوثيقة بينها وبين المادة الاصلية بالنسبة للقانون الجنح و الجنايات فلا يمكن ان تحترم المبادئ العامة وأهداف التشريع في تلك المادة دون إعمال المبادئ و مقتضياتها على الإجراءات ومن النافل التذكير والتأكيد أنه لا يمكن تطبيق اجراء جنائي او جناحي دون ان يكون سابق الوضع بواسطة قانون كذلك وإلا افرغ المبدأ أي مبدا شرعية الجرائم و العقوبات من محتواه و هو ما يبرز تكامل المبادئ العامة من حيث الشكل و الأصل في مادة الجنايات و الجنح.

دون الخوض في تأصيل المبدأ في التشريع الإسلامي [2] الذي له خصوصياته ومنطقه الذي لا يتطابق بالضرورة مع القانون الوضعي عرفت ليبيا المبدأ مع الدستور الملكي لسنة 1951 في مادته 17:" لا جريمة ولا عقوبة إلا بناء على قانون ولا عقاب إلا على الأفعال اللاحقة لصدور القانون الذي ينص عليها، كذلك لا توقع عقوبة أشد من العقوبة التي كانت نافذة وقت ارتكاب الجريمة." وبقي رغم تعاقب الإعلانات الدستورية وتحول المملكة الليبية الى نظام الجماهيرية وكذلك كان الامر بعد ثورة 2011 وما الإعلان الدستوري ومادته 31 المذكورة أعلاه الا شاهدا على ذلك و تتجه الإشارة كذلك أن مشروع الدستور او بالأحرى المسودة النهائية لمشروع الدستور المنتظر الى حد الآن تتبنى المبدأ و لم تكن النقطة بالخلافية لضرورة المبدأ وأهميته في أي منظومة جنائية معاصرة تدعي احترام حقوق الإنسان و خاصة ما يعرف بمبادئ المحاكمة العادلة.

بساطة المبدأ المغرية يجب ان لا تخفي الإشكاليات التي يطرحها في كل نظام قانوني نصا وتطبيقا فالمادة الجنائية سواء إجرائيا و موضوعا لا تخلوا من تعقيدات قد تعمق إشكاليات تطبيقات المبدا خاصة انه كما سبق واثرنا يهم وضع ضوابط للسلطة التشريعية و السلطة القضائية في الان نفسه ويهم حقوق المتقاضين و العامة كحقوق انسان ويعد من اوكد أركان المحاكمة العادلة و عليه فان الأمر يتعلق ببحث عن توازنات بين كل تلك الاعتبارات التي تختلف و تتنوع من علاقة السلط ببعضها الى تفاصيل الإجراءات و القواعد الاصلية الجنائية فضلا عن علم سياسة التجريم وعلم السياسة العقابية [3] ولن يشذ تناولنا بالرغم من ذلك عن التناول التقليدي للموضوع و في محاولة لتحليل الإشكاليات التي يطرحها المبدأ في القانون الليبي سنتعرض الى ما له علاقة بالنص لنهتم بوجوده  (جزء اول ) قبل التفرغ  لصياغته (جزء ثان ) و من المهم التأكيد اننا لا ندعي حصر الإشكاليات العديدة  التي يطرحها ذلك المبدأ في الإشكاليات التي نتناولها .

الجزء الأول: وجود النص

يطرح هذا الشرط إشكالية معرفة مصدر وشكل النص بتنصيص المادة الأولى من قانون العقوبات على وجوب نص يقصي المشرع بقية مصادر القانون غير المكتوبة فالنص يكون مكتوب بالضرورة طبعا وفق المعايير الشكلية والإجرائية والدستورية المقررة لطبيعة كل نص. النصوص المكتوبة في القانون الليبي لا تقتصر على التشريع العادي أي القانون الذي يصدر عن السلطة التشريعية فالسلطة التنفيذية يمكنها كذلك إصدار نصوص قانونية هي بلا شك ادنى في الترتيب الهرمي للنصوص القانونية لكنها نص قانوني تصدره السلطة التنفيذية أي الحكومة فيما يعرف بالسلطة الترتيبية و هو يأخذ عديد الاشكال أهمها وأعلاها مرتبة ما يعرف باللائحة الترتيبية و يطرح السؤال هل ان اللائحة الحكومية بما هي نص قانون يمكن ان تقرر أو تشرع جرائم وعقوبات؟ ام ان الامر حكر على السلطة التشريعية والتجريم او تحديد العقاب بلائحة هو خرق لمبدأ فصل السلط؟

بداية يتجه إقصاء حالة تفويض القانون أو النص للائحة تحديد بعض عناصر التجريم او معاييره لكون ذلك التفويض لا يخالف المادة الأولى وما تضيفه اللائحة هو تطبيق واستكمال للنص و تدخل جزئي في مسار تحديد الجريمة له ما يبرره في كل الحالات تطبيقيا كمواكبة تطور المجتمع و عدم الاضطرار الى تنقيح القانون كل مرة في أمور متغيرة بطبعها وما الى ذلك من الأغراض

قد نستنجد بالاتفاقيات الدولية للجواب ضرورة انها مصدر اعلى من القانون أي مجلة العقوبات وإن كانت أدنى من الدستور طبقا لمبدأ سمو الاتفاقيات الدولية وسواء تعلق الأمر بالعهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية أو الميثاق الافريقي لحقوق الانسان والشعوب فالحل واضح وهو القانون بمفهومه العادي أي النص التشريعي الصادر عن المشرع الوطني وان أضافت تلك النصوص المصادر الدولية لن تبقى شواهد القانون الداخلي اوكد و أهم 

لا يمكن ان ننطلق الا من نص المادة الأولى ونطرح التساؤل حول ماذا يقصد المشرع بنص هل هو أي نص بما يشمل اللائحة وحتى بقية القرارات الحكومية ام يقتصر على القانون بمفهومه الضيق أي النص التشريعي الصادر عن السلطة التشريعية؟ رغم عمومية لفظ النص الواردة بالمادة الأولى بما قد يبعث على التسرع والاستنتاج ان عبارة النص وردت مطلقة و يجب أخذها على إطلاقها الا انه يجب الاخذ في الاعتبار من جهة طبيعة المادة الجنائية و من جهة أخرى بقية النصوص

فلجهة طبيعة المادة الجنائية من النفع التذكير ان هناك مبدأ عام في تأويل القانون الجنائي وهو مبدأ التأويل الضيق وهو من المبادئ القانونية الأساسية في المادة اذ على خلاف بية القوانين وخاصة القانون المدني لا يمكن تأويل النص الجنائية إلا تأويلا ضيقا وعليه فلفظ النص الوارد بالمادة الأولى لا يمكن فهمه على انه أي نص قانون بل هو القانون بمعناه الفني الضيق وهو النص التشريعي الصادر عن السلطة الأصلية للتشريع [4]

اما لجهة بقية النصوص أي مواد مجلة العقوبات الجنائية فأغلبيتها الساحقة انطلاقا من الفصل 2 تتحدث عن قانون لا نص و القانون يؤول ببعضه  لكن قد يعاب على هذا التبرير ان اللائحة كذلك قانون و ان استبدال مصطلح "النص" الوارد بالمادة الأولى بمصطلح "القانون " في بقية المواد لا يغير من المسائلة و الموقف منها في شيء الا ان هذا الدفع لا يستقيم لانه لو فرضنا جدلا صحته يجب ان تعويض مصطلح "القانون "في بقية المواد بمصطلح "اللائحة " ممكن منطقا وقانونا وهو ما لا يستقيم في اغلب الحالات و لا سنضطر للقول او التأكيد ان المشرع لم يحسن اختيار مصطلحاته او اخطا و هو خرق لمبدا اصولي في التاويل وهو مبدا عدم عبث المشرع أي لا يمكن ان نفترض ان المشرع اخطا و الا لأصبح التاويل إعادة تشريع بتلك الذريعة كما ان التاويل يكون لما فيه مصلحة ومنطق وهو ما يتوفر في الراي القائل بان النص المشار اليه بالمادة الأولى هو القانون العادي الصادر عن السلطة التشريعية وهو ما يتوافق ومبدا الفصل بين السلط وهو ما قد يتاكد بالرجوع الى المادة 17 من الإعلان الدستوري لسنة 2011 الذي يكرس على الأقل من حيث المبدا حصرية التشريع لدى الجهاز الممثل للسلطة التشريعية و هو ما يتوافق كذلك مع المواد 1 و 4 من ذات الإعلان التي تؤكد على ديمقراطية و مدنية الدولة التي تقتضي ذلك المبدأ

 قد يعارض تأويل المادة الأولى[5] على النحو الذي بيناه المادة 507 من قانون العقوبات [6] للاستدلال ان اللائحة قد تكون مصدر تجريم وعقاب وهو راي فيه شطط ذلك ان المادة 507 وردت في آخر الكتاب الأخير من المجلة الباب الرابع : الجنح الأخرى و المخالفات المتعلقة بالحماية العامة للأموال على خلاف المادة الأولى التي وردت بالكتاب الأول والباب الأول بما يمكن ان نجزم معه ان ما ورد بالمادة الأولى هو المبدأ و لا ادل على ذلك الا عنوان الباب الأول :قواعد عمومية و ما ورد بالمادة 507 هو استثناء تفصيلي بدليل ضيق هامش أعمال اللائحة و تحديد المشرع له و حصره في أنواع معينة من المخالفات وتحديد العقوبات القصوى الممكنة بل ان النص نفسه أي المادة 507 تقر بان اللائحة هي مصدر غير كامل للتجريم و العقاب عندما تفترض إمكانية صدور لائحة تحدد المخالفة أي تجرم و لا تحدد العقاب و اقر لذلك عقوبة الدينار الرمزي بما يؤكد الطابع الاستثنائي ان لم نقل الهامشي للائحة في التجريم والعقاب كنص كاستثناء لما نصت عليه المادة الأولى .

الجزء الثاني : صياغة النص

بعد التعرض لمصدر النص او سؤال من ؟ نتناول سؤال كيف ؟ أي كيف يكون النص شكلا لجهة الصياغة و التحرير و الامر على غاية من الأهمية لان النص الجنائي من الخطورة على الحريات العامة و الحقوق بما لا يسمح ان يكون مصاغا او محرر بطريقة ملتبسة او غير واضحة او قابلة لتاويل واسع بما يعدم تحديد الجريمة او العقوبة ويطلق يد السلطة تنفيذية كانت او قضائية لتسقط ما شاءت من التأويل بما يلغي واقعا دور السلطة التشريعية في التشريع فالنص الجنائي يجب ان يكون دقيقا وواضحا و سهل الفهم ما امكن حتى يكون قابلا للتطبيق من الافراد أولا باعتبار انهم يمكنهم تعديل سلوكهم لاحترام النص و كذلك يمكن لهم ان يتوقعوا عواقب سلوكهم على ضوء النصوص الجنائية[7] وهو ما يعرف بقابلية التوقع فالغاية من مبدا شرعية الجرائم والعقوبات لا تبتدأ عند دور القاضي او الجهات المكلفة بإنفاذ القانون بل تبتدأ من عامة الافراد الذين يجب ان يكونوا على بينة و علم انهم في صورة إتيان سلوك مجرم يعلمون او كان من حقهم ان يعلموا بانهم يرتكبون جريمة و يعرفون عقابها المقرر قانونا او على الأقل سيكونون في موضع شبهة على ذلك المعنى ويكون لمحتوى المادة 3 من قانون العقبات أساس قانوني أي قرينة العلم بالقانون و عدم جواز الاحتجاج بجهل القانون اذ للغرض يجب ان يكون القانون واضحا في تجريمه و عقوباته و حتى اجراءاته .

طبعا فان الصياغة الواضحة و المصطلحات الدقيقة و المضبوطة تقي من التعسف في تطبيق القانون سواء من النيابة العمومية و الامن في مرحلة ما قبل المحاكمة او القضاة في مرحلة المحاكمة على أنه يجب الاحتراز في هذا الصدد لأن النص القانوني محدود حسا على خلاف الملابسات والوقائع فإعمال مبدأ الجرائم و العقوبات لا يعني ان نجعل من ممثلي السلطة القضائية او التنفيذية آلات تطبق القانون بل يبقى هامش الاجتهاد واسعا فيما لا يتجاوز  صلاحية التجريم و تحديد  العقاب الواردة بالقانون  و القانون نفسه يقر للقاضي تلك الامكانية صلب المواد 27 و 28 على سبيل الذكر لا الحصر .


بعد سياقة ذلك الاحتراز تجدر الإشارة الى ان القانون الجنائي الليبي وبحكم ملابسات صدور أغلب نصوصه السياسية لم يكن محترما لواجبات الصياغة القانونية التي يقتضيها مبدأ شرعية الجرائم و العقوبات و رغم تنصيص المادة الأولى على ذلك المبدأ تزخر النصوص الجنائية الليبية او بالأحرى تعاني من كثرة الأمثلة للصياغة الفضفاضة التي تتنافى و المبدأ بل وطبيعة القانوني الجنائي بصفة اعم

امثلة الصياغات المتنافية مع المبدأ نجدها سواء في قانون العقوبات او حتى في قوانين أخرى و نقتصر في ما يتعلق بقانون العقوبات بصياغة بعض النصوص التي تنظم جرائم شديدة الخطورة على المجتمع و التي قرر لها القانون اقصى العقوبات على غرار المواد 206[8] و207[9] وكلاهما يقرر عقوبة الإعدام

فبالسنبة للمادة 206 نجد مثلا تعبير :" كل من دعا إلى إقامة أي تجمع أو تنظيم أو تشكيل محظور قانوناً " ولا يبين النص شكل الدعوة كما يفترض وجود حظر سابق لتجمع او تنظيم او تشكيل وهو ما لا لم يرد به أي نص قانون بل حتى ان افترضنا ان الحكومات او السلطة التنفيذية هي من تصنيف التجمعات او التنظيمات والتشكيلات فلا وجود لقائمة حكومية او حتى إدارية لتلك الهياكل المحظورة ضرورة ان النص لم يستعمل لفظ " اعتبرت محظورة " ومخالفة لقانون الأحزاب او الجمعيات " او" محدثة على خلاف القانون " و الامر بالمثل لاستعمال صياغة:" أو قدم أية مساعدة له " فتعبير " أي " يفتح الباب على مصراعيه لتكييف أي عمل أو امتناع عن عمل كمساعدة مجرمة بالجملة والاشكال أن تلك الصياغة تمتد على كامل الفصل اذ يقرأ " أو بطريق غير مباشر بأية وسيلة كانت على نقود أو منافع من أي نوع أو من أي شخص أو من أية جهة " او " مهما دنت درجته في التجمع أو التنظيم أو التشكيل أو ما شابه ذلك..." وهي عبارات تتعارض مستلزمات الدقة و الوضوح الذي يقتضيها مبدأ شرعية الجرائم والعقوبات المكرس دستوريا.

المادة 207 مثال اخر لجريمة خطيرة مقرر لها اقصى عقوبات لكن الفاظها وتعابيرها تسمح بالتعسف في تطبيقها ولا تتيح للفرد تعديل سلوكه على ضوئها من ذلك  استعمال اعبرات غير دقيقة على غرار:" كل من روج " اذا ان مفهوم الترويج غير واضح ان كان الامر يتعلق بمجرد النشر و الاشاعة او يتعلق بنية الترويج أي الحشد و الترغيب و التجنيد و التعبئة أي البحث على حث الجمهور او المتلقي على تبني تلك الدعوة لاستعمال العنف او الإرهاب او أي وسيلة غير مشروعة أخرى و لفظ " كل من روج " المستعملة لا تسمح موضوعيا بالتفرقة بين المعنيين وهو ما ينجر عنه اثار خطيرة اذا ما علمنا ان الجزاء هو الإعدام خاصة اذا ما اخذنا بعين الاعتبار ان النص يمكن توظيفه لتصفية حسابات سياسية او أيديولوجية وما الى ذلك من الأغراض التي لم يوضع من اجلها نص القانون  و بالمثل نجد لفظ" اية وسيلة أخرى غير مشروعة " فان كان معايير استعمال العنف او الإرهاب واضحة نسبيا فان الغموض يلف مصطلح " وسيلة أخرى غير مشروعة " وهو امر غير مقبول لنص جنائي خاص يجرم افعالا خطرة وجريمة لا عقوبة لها الا الإعدام كما لوكان القانون ترك هامشا للسلطة التنفيذية او النيابة العمومية او المحاكم لحشر ما يريدون ان يحشروا من أفعال او متهمين في ذلك الفصل ليدان و يحكم بالاعدام وهو ما يتناقض مع القواعد الدستورية و مبدا الشرعية كما هو الامر كذلك  لاستعمال "مصطلحي التحبيذ او سبيل الترويج" التي وردت بالفقرات الثانية والثالثة للمادة 207 التي تفتح الباب على مصراعيه لتكييف أي عمل او امتناع عن عمل كتحبيذ او عمل على سبيل الترويج وكان الامر ليكون اقل خطورة لو استعمل النص لفظ بقصد الترويج عوضا عن على سبيل الترويج وهي عبارات تتعارض مستلزمات الدقة و الوضوح الذي يقتضيها مبدا شرعية الجرائم والعقوبات المكرس دستوريا بما يجعل الصياغة تهديدا حتى لحقوق دستورية أخرى على غرار حرية الراي او التعبير على معنى المادة 14 من الإعلان الدستوري ويذكر في هذا السياق شرح اللجنة المعنية بحقوق الإنسان في معرض تعليقها للمادة 19 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية التعليق العام عدد34 الدورة 102 سنة 2011 الفقرة 46 " وينبغي للدول الأطراف ان تضمن ان تكون تدابير مكافحة الإرهاب متمشية مع الفقرة 3 .وينبغي وضع تعاريف واضحة لجرائم مثل "  التشجيع على الإرهاب " والنشاط المتطرف " فضلا عن جرائم " الإشادة بالإرهاب أو " تمجيده " أو تبريره " .." سياسية "يجب صياغة "القانون" بدقة كافية لتمكين الفرد من تنظيم سلوكه وفقًا لذلك ويجب إتاحته للجمهور. "

وكامثلة لنصوص قوانين مستقلة عن مجلة العقوبات يمكن ان نشير الى ما يعرف بقانون المطبوعات وهو القانون عدد72 لسنة 1972[E1]  والذي تتعدد فيه الأمثلة على الصياغة المبهمة و الفضفاضة ونكتفي بالتعرض الى مادته 29 [10] التي احتوت قائمة في ما لا يمكن نشره اين نجد مصطلحات مثل:" التشكيك في اهداف الثورة ومبادئها" او " الدعوة الى حكم الطبقة او الفرد " او تحقير الديانات و المذاهب الدينية المعترف بها" و "انتهاك حرمة الاداب " او الجانب السلبي من أي موضوع او قضية  او " الجانب الإيجابي " او ما يثير فتنة المذاهب او الثار او دعوة الجاهلية " او الاخبار التي من شانها خفض العملة الوطنية " او " الاخلال بالثقة في الداخل و الخارج " وهي كلها مصطلحات بصرف النظر عن عدم جدوى محتواها او تعارضه مع الحق في المعلومة او حرية الراي وهي ما يخرج عن نطاق هذا المقال مصطلحات غير دقيقة و غير معرفة قانونا وحمالة معاني بما يسمح بنوع حتى من الانطباعية في تطبيقها بما يجعلها تتعارض قطعا مع مبدا شرعية الجرائم و العقوبات و الامر لا يقتصر على قوانين ما قبل ثورة 2011 و النظام الدكتاتوري السابق كما قد يستهوينا الاستنتاج وهي قوانين نافذة رغم تعارضها مع الإعلان الدستوري لسنة 2011 بل كذلك نجد نفس الاشكال مع القوانين الجديدة على غرار قانون مقاومة الجرائم الالكترونية رقم 05 لسنة 2022 و الذي نجد فيه امثلة لذات الخروقات ورد بالمادة 4 منه " استخدام شبكة المعلومات الدولية ووسائل التقنية الحديثة مشروعة مالم يترتب عليه مخالفة للنظام العام أو الآداب العامة أو الإساءة إلى الآخرين أو الإضرار بهم." وهي مفاهيم شاسعة المعنى وفضفاضة او ما ورد بالمادة 7 " يجوز للهيئة الوطنية الأمن وسلامة المعلومات مراقبة ما ينشر ويعرض عبر شبكة المعلومات الدولية أو أي نظام تقني آخر، وحجب كل ما ينشر النعرات أو الأفكار التي من شأنها زعزعة أمن المجتمع واستقراره أو المساس بسلمه الاجتماعي...." والأمر بالمثل لمصطلح :" اشباع رغبته الجنسية الوارد بالمادة 22 او مصطلح " توزیع معلومات تثير النعرات العنصرية أو الجهوية أو المذهبية" الوارد بالمادة29 وما الى ذلك من العبارات التي تتجافى ومنطق التجريم الجنائي.

خلاصة

تناول المقال مبدا شرعية الجرائم والعقوبات من زاوية نص القانون شكله ومحتواه دون البعد الزمني وما الى ذلك ما يطرحه المبدا من إشكاليات أخرى و ان كان الجزء الاول الذي تمحور حول  نص القانون اقرب للقانون العام منه للقانون الجنائي و يطرح إشكاليات في علاقة بعلاقة السلط ببعضها و اختصاصها و يكتسي نوعا ما طابعا نظريا وان كانت أهميته التطبيقية لا تقل أهمية مسائلة صياغة الن التي تم التعرض لها في جزء ثاني و التي لها من الأهمية ما يغطي كل القانون الجزائي و تعد الصياغة محرارا لمدى سيادة القانون و مبادئ دولة القانون و المؤسسات المحترمة لحقوق الانسان و الحريات العامة و التي قد يستحيل احترامها دون احترام مبدا شرعية الجرائم و العقوبات لكن حصيلة القانون في ليبيا بذلك المعيار لا زالت تحتاج الى إرادة تشريعية وقضائية وحتى تنفيذية تحين تلك النصوص وصياغتها وحتى محتواها وان كان المحتوى موضوعا لا يهم موضوع المقال و قد يكون من دواعي الأسف ان السلطة التشريعية في ليبيا رغم ما يطرحه الإعلان الدستوري لسنة 2011 خاصة في مواده1 و 4 و 15 من تحديات لها في موائمة النصوص القائمة السابقة مع مبادئه ومقتضياته الا ان ما كان يفترض انها حظائر تشريعية وحوارات مجتمعية لبلورة تشريع الثورة بقي منظرا الى اليوم بل يعرف المشهد الحكومي و التشريعي و القضائي أحيانا  ما يشبه الرجوع لعقلية ما قبل الثورة من خلال التمسك بالنصوص القديمة و سن نصوص جديدة على شاكلتها .

___

[1] نجد مبدا المشروعية حتى في القانون الإداري مثلا ويراجع في هذا الشأن مقال الأستاذ الدكتور عبودة الكوني " المحكمة العليا و مبدا المشروعية" منشور بمجلة موازين العدد الأول سبتمبر 2023 صفحة 06

[2]  تجدر الإشارة ان المشرع الليبي اختار تقنين ماجاء بالشريعة الإسلامية سواء بالنسبة لجرائم التعزير او الحدود وهو شكل من احترام مبدا الجرائم والعقوبات و التوفيق بين القانون الوضعي و التشريع الإسلامي وان كانت الإشكالات تبدا عند صمت القانون الوضعي خاصة في مسائل تفصيلية

[3]  حول السياسة العقابية يراجع مقال دكتور .مختار أبو سبيحة الشيباني و الأستاذ احمد التايب " دور المشرع الجنائي اليبي في رسم السياسة العقابية " منشور بمجلة أبحاث قانونية العدد12 ديسمبر 2021

[4] يذهب الأستاذ طارق محمد الجملي في مقاله : " مصادر قانون العقوبات " التجريم والاباحة" في القانون اليبي الى حل مخالف بتأويل لفظ النص بالمادة الأولى من قانون العقوبات كمصطلح يشمل التشريع العادي و اللائحي  مقال منشور بمجلة دراسات قانونية العدد20 صفحة 13

[5] انظر مثلا موقف الأستاذ طارق محمد الجملي في مقاله المذكور هامش سابق 

[6] وردت المادة 507 تحت عنوان لوائح ونصت على: كل من خالف أحكام لوائح البولیس الصادرة من جھات الإدارة العامة أو البلدیة أو المحلية یجازى بالعقوبات المقررة في تلك اللوائح بشرط أن لا تزید مدة الحبس على أسبوع والغرامة على عشرة دنانیر، فإن كانت العقوبة المقررة في اللائحة زائدة عن ھذه الحدود وجب حتما انزالها اليها فإذا كانت اللائحة لا تنص على عقوبة عوقب من يخالفها بغرامة لا تتجاوز دينار واحدا."

[7] اكدت المحكمة الاوربية لحقوق الانسان على ذلك المبدأ من ذلك مثلا ما ورد بقرارها صانداي تايمز ضد المملكة المتحدة عدد A30  بتاريخ 26 أفريل 1979  من ان القاعدة القانونية " يجب ان تصدر بقدر كاف من الدقة حتى تسمح للمواطن بتعديل سلوكه "

[8] :" يعاقب بالإعدام كل من دعا إلى إقامة أي تجمع أو تنظيم أو تشكيل محظور قانوناً أو قام بتأسيسه أو تنظيمه أو إدراته أو تمويله أو أعد مكاناً لاجتماعاته، وكل من أنظم إليه أو حرض على ذلك بأية وسيلة كانت، أو قدم أية مساعدة له، وكذلك كل من تسلم أو حصل مباشرة أو بطريق غير مباشر بأية وسيلة كانت على نقود أو منافع من أي نوع أو من أي شخص أو من أية جهة بقصد إقامة التجمع أو التنظيم أو التشكيل المحظور أو التمهيد لإقامته، ويتساوى في العقوبة الرئيس والمرؤوس مهما دنت درجته في التجمع أو التنظيم أو التشكيل أو ما شابه ذلك، وسواء أكان مقر هذا التجمع في الداخل أو الخارج. "ا

[9] يعاقب بالإعدام كل من روج في البلاد بأية طريقة من الطرق نظريات أو مبادئ ترمي لتغيير مبادئ الدستور الأساسية أو النظم الأساسية للهيئة الاجتماعية أو لقلب نظم الدولة السياسية والاجتماعية والاقتصادية أو لهدم أي نظام من النظم الأساسية للهيئة الاجتماعية باستعمال العنف والإرهاب أو أية وسيلة أخرى غير مشروعة.

ويعاقب بالسجن المؤبد كل من حاز كتباً، أو منشورات، أو رسومات أو شعارات أو أي أشياء أخرى بقصد تحبيذ الأفعال المذكورة، أو حبذها بأية طريقة أخرى.

كما يعاقب بالسجن المؤبد كل من تسلم أو حصل مباشرة أو بالوساطة بأية طريقة كانت نقوداً أو منافع من أي نوع ومن أي شخص أو أية جهة كانت داخل البلاد أو خارجها متى كان ذلك في سبيل الترويج لما نص عليه في هذه المادة "

 

[10] لا يجوز أن ينشر في أية مطبوعة:

.1 مداولات وقرارات مجلس قيادة الثورة ومجلس الوزراء إلا بإذن من الجهات المختصة

.2 تحركات القوات المسلحة وما يتعلق بتنظيمها أو تعبئتها أو تشكيلها أو عددها أو تسليحها أو إشاراتها أو

مواقعها أو تدريبها أو أسماء المنتسبين إليها مقرونة مناصبهم، إلا بإذن من القائد العام للقوات المسلحة.

.3 المحاكمة السرية ونصوص محاضرها.

.4 الدعاوى التي تصدر المحاكم قرارا بمنع نشرها.

.5 التشكيك في أهداف الثورة ومبادئها.

.6 الدعوة إلى حكم الطبقة أو الفرد.

.7 تحقير الديانات والمذاهب الدينية المعترف بها.

.8 انتهاك حرمة الآداب أو التشهير بسمعة الأشخاص.

.9 صور للمعدومين إلا بإذن من جهة الاختصاص.

.10 التعريفة الجمركية أو قرارات لجان التموين المتعلقة بالتسعيرة أو أجور الاستيراد أو القرارات المتعلقة بالعملة

وذلك قبل الإذن بنشرها.

.11 الجانب السلبي من أي موضوع أو قضية وتجاهل الجانب الإيجابي بقصد تضليل للجماهير.

.12 ما يثير فتنة المذاهب أو الثأر أو دعوة الجاهلية.

الأخبار التي من شأنها خفض قيمة العملة الوطنية أو سندات القروض الحكومية أو الإخلال بالثقة في الداخل أو

الخارج.

وكل مخالفة لأحكام هذه المادة يعاقب مرتكبها بالسجن وبغرامة لا تزيد عن ألف دينار وذلك مع عدم الإخلال بأي

عقوبة أشد ينص عليها قانون العقوبات أو أي قانون آخر.

كما يجوز وقف إصدار المطبوعة بقرار من الوزير المختص وتتبع في هذه الحالة الإجراءات المنصوص عليها في

المادة 33 من هذا القانون.

 [E1]تغيير قانون 72 إلى 76

Previous
Previous

الحق في النفاذ إلى العدالة في ليبيا

Next
Next

ليبيا: علاقة المنظمات غير الحكومية بإدارة الهجرة في مواقع العبور