ميزان القضاء: المنظمة الليبية للقضاة: "انعدام الأمن هو التحدي الأكبر الذي يواجه دولة القانون وضمانات حقوق الإنسان في ليبيا"

أجرى المقابلة الصحافي: حسن الأمين

في إطار سعينا لرصد التحديات التي تواجه الحق في الوصول إلى العدالة في ليبيا، ولتكون مجلة "موازين" مصدرًا منتظمًا وموثوقًا يسد الفجوة المعرفية والقانونية لدى المهتمين في هذا المجال -محليا وإقليميا ودوليا-، نستهل العدد الأول بعقد حوارات ونقاشات مع نخبة من المحامين والمدافعين عن حقوق الإنسان في ليبيا.

في هذا الحوار نتعرف على واحدة من المنظمات المهمة والفاعلة داخل ليبيا في مجال تعزيز دولة القانون والدفاع عن استقلال القضاء وحياديته، ونشر مبادئ حقوق الإنسان، وهي المنظمة الليبية للقضاة..

مجلة "موازين" تواصلت مع السيد/ عقيلة لقم، عضو اللجنة التسييرية للمنظمة الليبية للقضاة، وطرحت عليه جملة من الاسئلة التي تفضل، مشكورا، بالإجابة عليها…

● تعريف…

"المنظمة الليبية للقضاة" منظمة مدنية غير حكومية، مستقلة استقلالا تاماً عن أية مرجعية سياسية أو دينية، ولا تمارس أي نشاط سياسي إلا بالقدر الذي لا يشكل انتهاكا لأهدافها الرئيسية.

تعمل المنظمة على تعزيز دولة القانون والدفاع عن استقلال القضاء وحياده ونشر مبادئ حقوق الإنسان.

كانت نشأة المنظمة استجابة طبيعية للتغيير الذي شهدته ليبيا بعد 2011 ونتيجة للانفتاح الذي حدث على عمل المجتمع المدني، حيث وافق ذلك رغبة عدد من القضاة وأعضاء النيابة العامة الذين كانوا يسعون إلى تحقيق قضاء مستقل استقلالا كاملا عن باقي السلطات، وتطوير عمل السلطة القضائية بما يتناسب مع المعايير الدولية، فتنادوا، وسعوا إلى تأسيس المنظمة الليبية للقضاة. وتم ذلك في 16 أبريل 2012.

● محطات…

مثلت مرحلة التأسيس أهم المحطات التي مرت بها المنظمة، فقد كانت الفكرة، في حد ذاتها، أمرا جديدا، إذ لم يسبق إنشاء كيان مستقل بهذه الكيفية للدفاع عن القضاء. وفي الآن ذاته، تزامن تأسيس المنظمة وانطلاق عملها مع جملة من التحديات؛ بينها انتشار السلاح وما شهدته البلاد من نزاعات بين المجموعات المسلحة بمختلف توجهاتها؛ والتي يناصب، بعضها، العداء للقضاء بشكل مباشر؛ ما أثر على سير عمل المنظمة، خاصة بعد تعرض عدد من رجال القضاء والنيابة العامة للإخفاء والاغتيال؛ الأمر الذي انعكس، لا على المنظمة فحسب، بل تجاوزها إلى انعدام الاستقرار لرجال القضاء والنيابة في البلاد ونزوح عدد منهم إلى مناطق متفرقة ومغادرة بعضهم البلاد خوفًا من التهديدات التي يتعرضون لها، إضافة إلى التحدي الأصعب؛ الذي تمثل في تقبل أعضاء المجلس الأعلى للقضاء فكرة المنظمة غير الحكومية.

بعد إنشاء المنظمة، ورغم صعوبة الظروف وتعدد التحديات، فإنها نجحت في خلق مناخ جديد، نسبيا، خصوصا فيما يتعلق ببناء قدرات أفراد القضاء والنيابة وتطويرها؛ فقد تعاونت المنظمة مع بعض المنظمات العربية والإقليمية والدولية ونفذت عدة برامج تدريبية لأعضاء القضاء والنيابة العامة؛ تناولت موضوعات قانونية مختلفة.

غير أن نشاطها بدأ في الانحسار، بشكل ملحوظ، في العام 2015، لأسباب كثيرة منها المراقبة المسلطة على عملها من قبل المجلس الأعلى للقضاء والأجهزة الأمنية والجماعات المسلحة؛ ما أدى إلى تقلص نطاق المشاركة في أنشطتها خوفا على أعضائها.

● التحديات الأمنية وتأثيرها على سير عمل المحاكم والنيابات…

كان للتحديات الأمنية الدور الأكبر في عرقلة عملية إنفاذ القانون، إذ أدت سيطرة المليشيات والتيارات السياسية على معظم مؤسسات الدولة إلى التأثير على عمل السلطة القضائية وتقليص صلاحيات المحاكم والنيابات؛ الأمر الذي أدى إلى تراجع دور الأجهزة الأمنية الرسمية وحدّ من فاعليتها في مواجهة تنامي وسطوة المجموعات المسلحة، وأضحى العامل الرئيسي في ضعف دور النيابة العامة والقضاء، إذ من المعلوم، بالطبيعة، أن القضاء يظل، في هذه الحال، بدون ذراع قوي منصاع له وقادر على تنفيذ قراراته، وهو ما أفقد القضاء سلطته في مواجهة تنامي تلك المجموعات وقدرتها على السيطرة الفعلية على العديد من المؤسسات الحيوية والرئيسية في الدولة، ولا تستثنى من ذلك السجون ومراكز الاحتجاز.

● العقبات التي تواجه القضاء في الرقابة على مراكز الاحتجاز…

يبدو وضع أماكن الاحتجاز معقدا جدا، فهناك عدد غير يسير منها يخضع لسيطرة تلك المجموعات العسكرية غير الشرعية؛ ما يجعل الاقتراب من هذه الأماكن أمرا غير متاح للقضاة. وحتى الأجهزة التي تدعي شرعيتها وولاءها للدولة بمقدورها الامتناع، متى أرادت، عن تنفيذ أوامر الإفراج عن المتهمين الذين صدرت بحقهم قرارات إفراج؛ بما فيها القرارات الصادرة عن النائب العام.

إضافة إلى ذلك توجد أماكن احتجاز سرية لا تعلم بها السلطة القضائية ولا تسيطر عليها؛ وهذه حقيقة لا تخفى على أحد، فقد صدرت تصريحات رسمية مختلفة عن السلطات المتعاقبة تؤكد ذلك، ناهيك عن الاستهداف المباشر لمقار المحاكم والنيابات في مناسبات عديدة؛ ما جعل رجال القضاء والنيابة العامة عرضة للخطر في كل وقت. ولم تسلم كافة الأجهزة القضائية ولا المحاماة من هذه المخاطر.

● دور المنظمة في المرحلة الانتقالية، الانتخابات، العدالة الجنائية، استقلال القضاء؟

واقعيا، لا دور للمنظمة، في الوقت الراهن، لتعدد أطراف النزاع في الدولة، إذ أن تحركها في مثل الوضع الحالي سيدخلها في صراع مع الطرف المسيطر قد يؤدى إلى اغتيال أعضائها أو خطفهم أو معاقبتهم من قبل المجلس الأعلى للقضاء. إلا أن المنظمة لا تزال تعمل على توثيق الانتهاكات التي تقع على السلطات القضائية على مستوى الأفراد والمؤسسات.

(لوجو المنظمة أدناه)

ميزان العدالة الجنائية

حق الضحايا في الوصول إلى العدالة:

تأثره بمدى التزام القضاء الجنائي الليبي بمبادئ المحاكمة العادلة

بقلم د. جازية شعيتير

أستاذة القانون الجنائي بجامعة بنغازي

تقديم 

منذ 2011 والأمل منصب في ليبيا على المساعي السلمية لمنع الصراع واستعادة أسس العدالة في أجواء ما بعد الصراع وتعزيز سيادة القانون وإنفاذه، بيد أن التحديات كانت جمة؛ ومنها السياسي والأمني تحديداً، ما أدخل ليبيا في الدائرة المفرغة لانعدام الأمن وغياب العدالة. ولعل التحديات كانت عقبة في وجه جميع السلطات الرسمية سواء منها التشريعية أو التنفيذية، وطالت السلطة القضائية. 

كما هو معلوم للمتخصصين فإنه لتحقق حرية الوصول إلى العدالة شرائط معينة يمكن إجمالها في التالي: الإتاحة للعامة، الإتاحة للمتضررين من المظالم، امتلاك القدرة على اللجوء للعدالة، القدرة على تقديم الشكوى، وجود مؤسسات تتيح للمواطنين فرصة عرض قضاياهم وتهتم بها وتتعامل مع مظلمتهم التعامل الأنسب وقادرة على اتخاذ أحكام وقرارات رشيدة فيما يتعلق بتسوية المنازعات استنادا إلى قواعد قانونية أو أحكام دينية أو عرفية، وتنفيذ هذه الأحكام والقرارات في ظل سيادة القانون.

ويبقى السؤال: هل ضمانات الوصول إلى العدالة حسب المعايير الدولية المذكورة أعلاه متاحة في ليبيا؟

للإجابة على هذا السؤال تلزمنا التفرقة بين السياق القانوني على مستوى السياسة التشريعية، حيث يلزم أن نعاير نصوص القانون الليبي بالمعايير المثلى للمحاكمة العادلة، وبين السياق القانوني على مستوى التطبيقات القضائية الواجب معايرتها بالمبادئ المنصوص عليها في التشريع الليبي بدءا من الدستور مرورا بالقوانين وصولا إلى اللوائح والقرارات. ومن ثم لابد من البحث في العقبات التي تعرقل إصلاح المنظومة القضائية لضمان مبدأ الوصول إلى العدالة وبحث السبل الممكنة لتجاوز هذه العقبات. 

السياق القانوني للوصول إلى العدالة على مستوى السياسة التشريعية

للنصوص القانونية المتعلقة بالمحاكمة العادلة وحق الوصول إلى العدالة سياق دستوري؛ يفترض أن يكون متينا وشاملا، للقول بأن العدالة وتيسرها محميان دستوريا، في بلد ما. وبالنسبة لليبيا، فمنذ 2011 لم يتوافق الليبيون على دستور دائم، رغم أن مسودة الدستور الصادرة عن الهيئة التأسيسية في 2017 تحتوي على بعض المواد الضامنة للحق في الوصول إلى العدالة من خلال دسترة كثير من مبادئ المحاكمة العادلة.

فقد أقرت المادة 61 من المسودة حق التقاضي؛ حيث كفلته للجميع، وأكدت على الحق في اللجوء للقاضي الطبيعي، كما أكدت على عدم جواز تحصين أي قانون أو قرار إداري من رقابة القضاء. ونصت المادة 62 على مبدئي أصل البراءة والشرعية الجنائية، بينما نصت المادة 63 على عديد المبادئ الإجرائية الميسرة لحق الوصول إلى العدالة مثل: حق الاستعانة بمحام، وحق الحصول على مترجم، وضمان توفير الدولة للمساعدة القضائية.

وقد أفرد الباب الرابع لدسترة أحكام السلطة القضائية، ولعل أهمها ما تضمنته المادة 118 من مبدأ استقلالية القضاء، والمادة 123 من حظر للمحاكم الاستثنائية.

أما الميثاق الدستوري الحاكم في الوقت الراهن فهو الإعلان الدستوري المؤقت وتعديلاته الكثيرة بما فيها الاتفاق السياسي 2015 وخريطة الطريق 2021. ويلاحظ في الإعلان المؤقت تخصيصه بابا للضمانات القضائية (الباب الرابع) يحتوي على 3 مواد تدستر أهم مبادئ المحاكمة العادلة، وهي: مبدأ الشرعية، ومبدأ استقلال القضاء، والحق في افتراض البراءة، والاستعانة بمحام، والحق في محاكمة عادلة ومنجزة.

أما الاتفاق السياسي فقد اعتبر مبادئ المحاكمة العادلة من بين تدابير الثقة التي نص عليها في المادة 26 منه؛ فبعض فقرات تلك المادة تنص مثلا على: الالتزام بتوفير حماية فعالة للسلطات القضائية المختصة وتمكينها من مراجعة حالات الاحتجاز والاعتقال، وإطلاق السراح الفوري لجميع الأشخاص المحتجزين أو المعتقلين دون سند قانوني. كما تنص، أيضاً، على الالتزام بحكر سلطة احتجاز المعتقلين والسجناء على السلطات القضائية المختصة وفقا للتشريعات الليبية النافذة وفي مرافق معترف بها رسميا.

كما يلزم الاتفاق السياسي بالعمل على تطبيق قانون العدالة الانتقالية رقم 29 لسنة 2013 وتعيين مجلس إدارة هيئة تقصي الحقائق والمصالحة، ويدعو إلى الالتزام باستقلال المجلس الوطني للحريات وحقوق الإنسان ودعمه للقيام بمهامه على أكمل وجه؛ بما في ذلك دوره في زيارة السجون ومتابعة المحتجزين.

بينما اختارت خريطة الطريق أن تربط بين مبادئ المحاكمة العادلة وبين المصالحة الوطنية في المادة 6 منها: "إطلاق مسار المصالحة الوطنية والاجتماعية لمعالجة أثار النزاعات المختلفة؛ وذلك ابتداء بإنهاء ظاهرتي القبض والاحتجاز التعسفي والإخفاء القسري وإطلاق سراح معتقلي الرأي والمحتجزين قسرا دون وجه حق والعمل على العودة الطوعية والآمنة للمهجرين والنازحين من داخل وخارج البلد، وجبر الضرر دون إسقاط الحق الخاص في التقاضي".

وفي السياق القانوني الليبي الأدنى من الدستوري نظم حق الوصول إلى العدالة عبر عدة مبادئ للمحاكمة العادلة؛ وخصوصا في نصوص القوانين الجنائية كما وردت في قانون الإجراءات الجنائية 1953؛ ومنها ما أشارت إليه بعض القوانين الجنائية الخاصة؛ مثل: قانون المرور، وقانون المخدرات، وقانون الإرهاب، وقانون الأحداث، وقانون الإجراءات العسكرية؛ وهي نصوص توفر في مجملها الحد المعقول للحق في الوصول إلى العدالة، ولكنها مازلت تحتاج إلى كثير من التدخلات التشريعية لتكون متوافقة ومتلائمة مع المعايير المثلى للمحاكمة العادلة التي تضمن حق الوصول إلى العدالة.

فعلى سبيل المثال ينقص التشريع الليبي إلزام السلطة القضائية بحق المتهم في الاطلاع على المعلومات الإجرائية خلال مرحلة الاستدلال والتحقيق؛ فهو أمر جوازي لسلطة التحقيق، حيث أن المادة 61 من قانون الإجراءات الجنائية تجيز غياب المتهم في حالات الضرورة والاستعجال. وللأسف، أي بطلان بشأن الاطلاع على المعلومة الإجرائية هو مقرر لمصلحة المتهم، فإغفاله أو عدم المطالبة به يعد، قانونا، تنازلا عن استعمال هذه الضمانة. كما أن الحق في الاستعانة بمحام أمام جهات التحقيق يكون وجوبيا فقط في الجنايات ولا يكون، بتاتا، أمام سلطة الاستدلال رغم أهميته.

وبالرغم من أن الحق في افتراض البراءة هو مبدأ دستوري، قد تفسر المادة 25 من قانون الإجراءات أنها إخلال به؛ فهي تنص على أن مأمور الضبط القضائي يجب عليه أن يسمع، فورا، أقوال المتهم المقبوض عليه، وإذا لم يأت بما يبرؤه يرسله في مدى 48 ساعة إلى النيابة العامة. إذن، فعبء الإثبات في مرحلة الاستدلال، يقع على المتهم. ويؤكد ذلك دليل المحقق الصادر عن وزارة العدل؛ فصورة المتهم فيه لا تخرج عن حالين: إما معترف يستجوب، أو منكر فتواجهه النيابة بمختلف الأدلة والقرائن ليعترف.

بخصوص التحقيق؛ يتبنى القانون الليبي نظام التنقيب والتحري من حيث الأساس وإن كان يحتوي على ملامح بسيطة للنظام الاتهامي من خلال تمكين المضرور من رفع دعوى جنحة مباشرة أمام القضاء. وما عدا ذلك فإن النيابة هي المخولة برفع الدعوى دون غيرها، بعد أن تعتمد تحقيقات سلطة الضبطية القضائية أو تحققها بنفسها في حال المخالفات والجنح، أو بعد تحقيقها، وجوبا، في حال الجنايات، من النيابة العامة كقاعدة عامة أو قاضي التحقيق على سبيل الاستثناء، على أن تمر على بوابة إجرائية قبل وصولها إلى القضاء تسمى غرفة الاتهام؛ وهي مشكلة من قاض فرد له اختصاصات واسعة في التحقيق والاتهام.

ومن هنا يتبين الخلل في النظام الإجرائي الليبي؛ فالتحقيق موكول من حيث المبدأ، لجهة الاتهام وهي النيابة العامة؛ وهذه مفارقة عجيبة. ولا يستلم قاضي التحقيق الدعوى إلا برغبتها. ويجوز للمتهم أن يطلب قاضي تحقيق للتحقيق في قضيته لكن طلبه قد يرفض، وليس للمتهم الحق في الطعن على هذا الرفض غير المسبب، كما ورد في المادة 51 من قانون الإجراءات الجنائية.

أما عن الحق في الإنجاز الإجرائي فهو غير واضح المعالم في القانون الليبي. فعلى سبيل المثال لا الحصر المدد القانونية للحبس الاحتياطي مفتوحة ولا جزاء قانوني على تطويل أمد الحبس أو المبالغة غير المبررة فيه.

وأخيرا، لا ضمانة دستورية أو قانونية للحق في التعويض عن الخطأ في تطبيق العدالة، لمن قررت جهات التحقيق عدم إقامة دعوى في مواجهته أو حكمت المحكمة ببراءته، بيد أن الحق في التعويض ضمنه نص المادة 64 من مسودة الدستور الذي لم ير النور بعد.

أما عن الحق في المثول أمام القاضي الطبيعي فهو، أيضا، عرضة للانتهاك التشريعي. فعلى سبيل المثال؛ بالرغم من أن قانون العقوبات العسكري رقم (49) لسنة 1956 وقانون الإجراءات العسكرية رقم (50) لسنة 1956 قد حددا الولاية القضائية للمحاكم العسكرية، من حيث الاختصاص الشخصي على:

ا- الضباط المستخدمين في الجيش الليبي أو المنتمين إلى قوة عسكرية تابعة له.

ب- طلبة المدارس العسكرية وضباط الصف والجنود المنتمين إلى الجيش الليبي أو إلى أية قوة عسكرية تابعة له.

ج- الأسرى العسكريين سواء كانوا ليبيين أو أجانب.

د- المدنيين المشتركين مع أحد العسكريين في ارتكاب جريمة من الجرائم العسكرية في حالة النفير.

إلا أن قانون الإجراءات العسكرية قد طالته تعديلات كثيرة خاصة بعد فبراير 2011. ولعل أهم عوامل التغيير هي الظروف السياسية السائدة في البلاد؛ فتارة تنص السلطة التشريعية على أن يمثل المدني أمام القضاء العادي، وتارات كثيرة نصت على أن يمثل أمام القضاء العسكري. فقد صدر القانون رقم 11 لسنة 2013 في شأن تعديل قانوني العقوبات والإجراءات العسكرية، وعدل بموجبه قانون العقوبات العسكري؛ بحيث قصر شريحة الخاضعين لأحكامه على العسكريين النظاميين الذين لهم رتبة منصوص عليها في قانون الخدمة العسكرية والأسرى العسكريين النظاميين؛ ما يعني استبعاد المدنيين العاملين بالجيش وكذلك المتطوعين بالجيش. وتبعا لذلك أيضا، عدل قانون الإجراءات الجنائية العسكري؛ بحيث أصبح اختصاص المحاكم العسكرية قاصراً على الجرائم التي يرتكبها الخاضعون لأحكام قانون العقوبات العسكري (العسكريون، الأسرى العسكريون) متى نصّ عليها هذا القانون، إلا أن المؤتمر الوطني العام عاد لتعديل هذا الاختصاص بموجب القانون 5 لسنة 2015 ليشمل اختصاص المحاكم العسكرية الجرائم المنصوص عليها في قانون العقوبات العسكري وقانون العقوبات العام.

كما عدل مجلس النواب الاختصاص بالقانون رقم 4 لسنة 2017م؛ ما مكن المدعي العسكري من مساءلة واستدعاء المدنيين بصفة المليشيات المسلحة أو بصفة مرتكبي جرائم الإرهاب.

 التحديات التي تواجه الحق في الوصول إلى العدالة على مستوى التطبيقات القضائية

أما التطبيق القضائي للنص القانوني فهو أسوأ من النص من حيث كونه يسحب الحماية الدستورية والقانونية عن الحق في الوصول إلى العدالة في كثير من الأحيان.

فعلى سبيل المثال نجد أن القانون ينص على بدائل الحبس الاحتياطي مثل الكفالة وعلى إجراءات دقيقة يجب أن تتبع، ولكن الواقع العملي يؤكد التوسع واستسهال الحبس الاحتياطي بدون إجراء ملاءمة دقيقة. وكثيرا ما يحال المتهمون المحبوسون بدون أوراق، ويمتد الحبس بدون متابعة أو تجديد قانوني. هذا بالإضافة إلى ظروف الاحتجاز غير الإنساني. فعلى سبيل المثال: ليس للنساء مكان مخصص في المركز. تقول إحدى الضابطات: "أنام والمعتقلة في مكتب رئيس التحقيق إلى أن ترحل، صباحا، إلى النيابة ومنها إلى السجن. وتبقى مشكلة دورة المياه المشتركة وغيرها من المشاكل".

على صعيد آخر، تنص أكثر من 30 مادة من مواد قانون العقوبات على عقوبة الإعدام، بيد أن المحكمة تتلكأ في تطبيقها بشأن جرائم القتل العمد انتظارا لعفو ولي الدم؛ ما يجعلها تخل بالحق في محاكمة منجزة.

وعلى الرغم من عدم وجود أرقام رسمية منشورة تشير لمتوسط مدد التقاضي الجنائي في ليبيا، حاليا، وكم تستغرق القضايا الجنائية، في المتوسط، من لحظة إحالة الدعوى إلى حين صدور الحكم، إلا أننا نؤكد أن ذلك يختلف باختلاف نوع الدعوى وخطورة الجريمة، ونستطيع أن نؤكد أن السجون مكتظة بمن ينتظرون حقهم في إنجاز العدالة.

على صعيد التطبيق القضائي العسكري، وفقاً لبيانات صادرة عن بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا، حكمت المحاكم العسكرية الليبية بين عامي 2018 و2020 على ما لا يقل عن 22 شخصاً بالإعدام في أعقاب محاكمات غلب عليها طابع الاستثنائية. وبحسب منظمات ليبية لحقوق الإنسان، فقد صدر ما لا يقل عن 31 حكماً بالإعدام.

التحديات التطبيقية للحق في الوصول إلى العدالة 

يمكن أن تكون تحديات حق الوصول إلى العدالة من خارج المنظومة العدلية، ويمكن أن تكون تلك التحديات من داخل المنظومة العدلية؛ ومنها على سبيل المثال:

انعدام الأمن:

تتفشى ظاهرة التعديات التي تقوم بها المليشيات دون وجود سبل لرد ظلمها، واعتمادها، من جهة أخرى، آليات استيفاء الحق بالذات؛ فكل ميليشيا تأخذ حقها بيدها من خلال الهجوم على الأخرى، وتأخذ حقها من مؤسسات الدولة بالاستيلاء عليها. بل أن من المواطنين من يفضل اللجوء إليها؛ فهي أكثر نجاعة وإنجازا في استيفاء الحق والباطل معا. وبوجودها لا إنفاذ للقانون، ولا تفعيل للأحكام القضائية.

الانقسامات الاجتماعية والسياسية:

هذه الانقسامات ذات الأبعاد الجهوية أو الأيدلوجية أو العرقية تقلل من فرص تطبيق مبادئ المحاكمة العادلة؛ ما يعيق حق الوصول إلى العدالة. ويجب ألا نهمل التأثير السلبي للدور القوي لكل من السياسة والعرف والفساد؛ حيث سيست العدالة لاسيما الانتقالية منها، ولوحظت مظاهر فساد في القطاع العدلي، وتدخَّل العرف ليعيق، في كثير من الأحيان، مبدأ عدم الإفلات من العقاب.

تذبذب مفهوم العدالة:

صار المجتمع الليبي، حاليا، يفتقد لضبط دقيق لمصطلح العدالة؛ فقد رصدنا تعريفا مدنيا للعدالة يختلف عن التعريف الإسلامي لها. فالعدالة المدنية تعني تطبيق القانون الدولي بكل مصادره وتعتبر الدستور مظلة عليا لكل القوانين وهي عدالة حقوقية النهج. بينما العدالة الإسلامية تعني تطبيق الشريعة الإسلامية دون غيرها باعتبارها مصدرا وحيدا للتشريع، وتطبيق أحكام الشريعة هو العدل دون غيره، كما أن العدالة عند ضحايا النظام السابق تختلف عن العدالة عند ضحايا المرحلة الانتقالية؛ فالعدالة عند ضحايا النظام السابق تعني اجتثاث النظام السابق وأنصاره وأعوانه، فيما تعني، عند ضحايا المرحلة الانتقالية، اجتثاث أنصار الشريعة والإخوان المسلمين. كما جدت على المجتمع الليبي مصطلحات عدلية مثل: العدالة الانتقالية والعدالة التصالحية. 

توصيات حول الخطوات العملية الممكنة لضمان حق الضحايا في الوصول إلى العدالة

ستحتاج ليبيا لتكاتف جهود جميع الأطراف من أجل تجاوز العقبات الحالية:

على الصعيد الدولي

نحتاج لدعم يقدمه لنا المجتمع الدولي فيما يتعلق بجوانب العدالة، ولكن عليه، بداية، أن يدرك أن هذا الدعم لن يؤتي ثماره إلا إذا قدم بعد استيعاب عميق للسياق التاريخي وفهم عميق للقانون وللسياقات الاجتماعية والسياسية وحتى الاقتصادية والثقافية. وقد يتحقق هذا الدعم من خلال المشاركة في الإصلاح المؤسسي للقطاع العدلي؛ سواء بالتدريب والتأهيل، أو من خلال المساهمة في الذهاب إلى العدالة الإلكترونية، وصولا إلى ممارسة الاختصاص بقضايا تقع في اختصاص القضاء الليبي، ولكنه قد لا يكون قادرا على إجراء تحقيقات وملاحقات قضائية فعالة إذا لم توجد لدى الدولة إرادة حقيقية في إجرائها.

على صعيد المؤسسات التشريعية:

يمكن للمؤسسة التشريعية أن تقوم بالعديد من الخطوات الإصلاحية، وأهمها:

1. التصديق على كثير من الاتفاقيات الدولية مثل؛ اتفاقية 1951 المتعلقة بحقوق اللاجئين وبروتوكولها لسنة 1967؛ فهذه الاتفاقية ستمكن المهاجرين غير النظاميين والمدافعين عن حقوقهم من وصول أمثل إلى العدالة، حيث أن عدم توقيع ليبيا على هذه الاتفاقية يجعلها في حل من كثير من الالتزامات، إذ لا يوجد في ليبيا قانون للجوء أو إجراءات للتعامل مع اللجوء، وليس أمام الفارين من الاضطهاد آلية رسمية لطلب الحماية.

كذلك يجب على ليبيا التوقيع على البروتوكول الاختياري لاتفاقية مناهضة التعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة؛ فبهذا التوقيع ستتمكن الجهات المختصة من القيام بزيارات إلى أي مكان يخضع لولايتها ولسيطرتها ويوجد فيه أشخاص محرومون من حريتهم، إما بموجب أمر صادر عن سلطة عامة أو بناء على إيعاز منها أو بموافقتها أو سكوتها. ويجري الاضطلاع بهذه الزيارات بهدف القيام، عند اللزوم، بتعزيز حماية هؤلاء الأشخاص من التعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة.

2.  الاهتمام بالمسار الديمقراطي من خلال إجراء الانتخابات وإنهاء المرحلة الانتقالية بالدستور الدائم التوافقي.

3. إصلاح تشريعي شامل؛ تحديدا للقوانين والتشريعات الجنائية، فيما يتعلق بالنصوص السابق الإشارة إليها في الجزء المخصص للسياقات القانونية. 

4. تعديل قانون الإجراءات الجنائية لضمان المزيد من الحقوق لمحامي الدفاع، وتعزيز الإشراف القضائي على الشرطة وعمل النيابة في المراحل السابقة على المحاكمة.

5. الاهتمام بقانون العدالة الانتقالية رقم 29 لسنة 2013 وتعديله وتفعيل اللائحة التنفيذية الخاصة به، وضم ملف الملكية العقارية لهذا القانون، وهو الملف الشائك في ليبيا بسبب ميراث التعدي على الملكية من عهد سابق والذي استفحل خلال المرحلة الانتقالية. كما والأخذ بعين الاعتبار مظلمة الجماعات الإثنية، ومظلمة الأقاليم الجهوية، وإدماجها في الإطار العام للعدالة الانتقالية.

على صعيد المؤسسة التنفيذية:

بعض الخطوات التي يمكن أن تأخذها المؤسسة التنفيذية:

1. الاهتمام بالإصلاح المؤسسي للمؤسسات الأمنية والعسكرية والعدلية.

2.  الامتناع عن دعم المليشيات، وحلها وتسريحها، والابتعاد عن محاولة إدماجها كجماعات في الداخلية أو الدفاع، والاكتفاء بدمج أعضائها كأفراد حسب إمكانياتهم وبناء على تدريبهم، مع التركيز على الدمج المجتمعي والنفسي والاقتصادي والعملي. 

3. الاهتمام بالمصالحة الوطنية من خلال ملف العدالة الانتقالية بكل سياقاته السياسية والاقتصادية والاجتماعية؛ لما للمصالحة الوطنية من أثر فعال في عملية بناء الدولة وسيادة القانون وتحقيق العدالة، وذلك من خلال المجلس الرئاسي في حكومة الوحدة الوطنية والذي آل إليه هذا الملف وفقا لما نصت عليه خريطة الطريق جنيف 2021.

على صعيد المؤسسة القضائية:

1. يجب أن تعمل الأجهزة القضائية -وعلى رأسها المجلس الأعلى للقضاء، والذي لحسن الحظ لم يلحقه الانقسام المؤسسي- على زيادة الشفافية والحوكمة، والتحقق من استناد الأحكام في الدعاوى الاجتماعية المهمة إلى أسباب وحيثيات ذات سوابق قضائية، وفق صحيح القانون، مع أخذها برؤية مستنيرة حديثة من خلال المعارف الأكاديمية المتاحة في العلوم القانونية والاجتماعية.

2.  ضرورة إعادة النظر في مسألة حركة التغيرات القضائية المعيبة التي تقضي بإعادة تعيين القضاة ووكلاء النيابة محامين شعبيين (محامي عموم) والحد من عمليات النقل المتكرر للقضاة؛ وهي الصلاحيات الممنوحة لإدارة التفتيش القضائي، كمقترحات تعتمد من قبل المجلس الأعلى للقضاء. ولعلنا في حاجة ماسة للاتجاه نحو القاضي التخصصي.

3. تمكين المعهد العالي للقضاء ونقابة المحامين من التعاون مع كليات القانون بغرض مراكمة الخبرات وتقديم دورات عالية الجودة في الممارسات والنظريات القانونية، وذلك في مختلف أرجاء ليبيا.

4. تدريب مأموري الضبط القضائي وكل القائمين على السلطة القضائية على مراعاة حقوق الإنسان واتباع الإجراءات السليمة والمحاكمة العادلة. 

5.  العمل على دراسة حقيقية بشأن العدالة الإلكترونية ومدى تقليلها من العوائق التي يواجهها معظم طالبي العدالة، ومدى زيادتها كفاءة المحاكم في التعامل مع أعباء القضايا المتراكمة والمستمرة ومع التحديات الخارجية المتمثلة في جائحة كورونا أو الوضع الأمني المضطرب.

6. اتباع سياسة تمكينية نسوية من خلال احترام واستدامة الأدوار المهمة للقاضيات والمحاميات ضمن النظام القانوني الليبي مع التركيز على أدوارهن في دوائر محاكم الأسرة وفي دوائر العنف الأسري.

على صعيد المؤسسات الأكاديمية 

1. تكليــف الجامعــات الليبيــة بتنفيــذ مشــاريع بحثيــة متعلقــة بالسياســات التشريعية بخصــوص اللجــوء إلــى العدالــة والإصــلاح القانوني والمؤسسي، وتشجيع المجموعات البحثية المشتركة بين ليبيا والخارج في هذا المجال العدلي المهم.

2. تنقيح وتطوير مناهج القانون بما يلبي الاحتياجات الفعلية للمنظومة العدلية بالذات فيما يخص حقوق الإنسان وبالأخص الفئات المهمشة كالمرأة والأطفال والمعاقين والمهاجرين.

3. إنشاء مراكز قانونية يشرف عليها أكاديميون تتوفر فيها الدورات التدريبية للمختصين بالقانون.

Previous
Previous

ميزان المحاماة: محامون ليبيون مستقلون: "مهنة المحاماة هي مهنة (النجدة).. مهنة نبيلة تستوجب تغليب الواعز الحقوقي

Next
Next

ميزان المحاسبة: العدالة الانتقالية والمحاسبة عن الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان في ليبيا