ميزان المحاسبة: العدالة الانتقالية والمحاسبة عن الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان في ليبيا

تسارع الدول التي تمر بعمليات الانتقال السياسي لاتخاذ تدابير مختلفة للعدالة الانتقالية على اعتبارها جزءاً مهماً من عملية انتقال الدول من نزاع أو حكم استبدادي إلى مرحلة سلم وحكم ديمقراطي، إذ تعتبر الطريقة التي يقرر من خلالها المجتمع معالجة الانتهاكات السابقة لحقوق الإنسان عاملاً حاسماً في مدى تحقيق هذا المجتمع السلام المستدام والاستقرار.

لم تشذ ليبيا عن هذه القاعدة؛ فمنذ سقوط نظام القذافي في أكتوبر 2011، بعد حكم استبدادي بالحديد والنار دام 42 سنة، تاركاً إرثاً كبيراً من الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، سارعت ليبيا إلى تبني تشريعات متعلقة بالعدالة الانتقالية أملاً منها في التعامل مع ماضيها "الشيطاني". ولعل ما يميز الحالة الليبية أمران؛ الأول متعلق بطول المدة التي حكم فيها القذافي ليبيا، فقد شهدت على مدار أربعة عقود توظيف خبراتها وإمكانياتها لصالح النظام البائد على حساب التنمية والحياة الكريمة لمواطنيها، بالإضافة لسجل حافل من انتهاكات حقوق الإنسان. أما الأمر الثاني فيتعلق بفترة الثورة نفسها وما لحقها؛ فعلى خلاف المسار الانتقالي في جارتها تونس، كانت الثورة الليبية مرتفعة الكلفة من حيث الخسائر في الأرواح والممتلكات وانتشار الأسلحة والفلتان الأمني الذي أعقبها وما تخللها من انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان وجرائم بموجب القانون الدولي. 

علاوة على ذلك، فقد عقد الوضع الاستثنائي للدولة الليبية مساعي إنشاء منظومة فعالة للعدالة الانتقالية بعد الثورة، فتحولت الاحتجاجات إلى أعمال عنف ونزاع مسلح وانقسام سياسي أدى إلى فشل الحكومات المتعاقبة في فرض سيطرتها وسيادتها على كامل ترابها الوطني. فبدون حكومة مركزية قوية ومؤسسات دولة فاعلة، لم تتمكن ليبيا من منع الجماعات المسلحة من ملء هذا الفراغ والسيطرة على المناطق وإشعال حرب أهلية. فتركزت الجهود والاهتمام على حل النزاعات والانقسامات المستمرة بدلاً من تحقيق الانتقال إلى الديمقراطية بما يشمل إنشاء منظومة عدالة انتقالية فعالة وبناء مؤسسات ديمقراطية. 

وعاد طرح مسألة العدالة الانتقالية في ليبيا من جديد في سياق المفاوضات السياسية التي بدأت عام 2020، إذ أكد المشاركون في مؤتمر برلين الأول حول ليبيا على ضرورة تعزيز مؤسسات العدالة الانتقالية. فهناك ارتباط وثيق بين آليات العدالة الانتقالية والمؤسسات الديمقراطية وعملية المصالحة. وبشكل عام، تعد آليات العدالة الانتقالية والمؤسسات الديمقراطية أدوات من أجل الوصول إلى السلام، بينما تضمن المصالحة تحقيق الاستقرار والتنمية المستدامة العادلة في المجتمع. ويمكن القول أنه بدون إجراءات العدالة الانتقالية، سيواجه المجتمع الذي يمر بمرحلة انتقالية نحو الديمقراطية فشلا مؤسساتيا، إذ ستكون مؤسساته وسلطاته التنفيذية والتشريعية والقضائية أقل مقاومة للأزمات السياسية وحتى الاقتصادية إذا لم تتمكن من الحصول على ثقة العامة من المواطنين.

وأعاد ترشح بعض الشخصيات للانتخابات الرئاسية في نهاية العام الماضي 2021 الحديث عن أهمية محاسبة مرتكبي انتهاكات حقوق الإنسان الجسيمة وأثار تساؤلات عديدة عن إمكانية عقد انتخابات قبل الانتهاء من مسار العدالة الانتقالية وتحقيق المصالحة الوطنية. وتعيد جميع هذه التساؤلات إلى جدلية الأولويات بين تحقيق العدالة والمصالحة والعدالة وإمكانية الوصول إلى انتقال سياسي يؤدي إلى سلام في ليبيا إذا لم تكن هناك عدالة انتقالية تضمن محاسبة مرتكبي الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، بالإضافة لما ينتج عنه من تهديد لشرعية الانتخابات القادمة وإمكانية الوصول لانتقال سياسي وسلام مستدام. 

في هذا السياق، يمكن تعريف العدالة الانتقالية على أنها "العمليات والآليات المرتبطة بالمحاولات التي يبذلها المجتمع لتفهم تركة من تجاوزات الماضي الواسعة النطاق بغية كفالة المساءلة وإقامة العدالة وتحقيق المصالحة". وترتكز العدالة الانتقالية على مجموعة عناصر لعل أهمها المساءلة عن الجرائم بموجب القانون الدولي بما يفترض واجب ليبيا في التحقيق في الجرائم وتجريمها في قوانينها المحلية والمعاقبة عليها، إلا أن واقع الحال لا يعكس ذلك؛ فغياب سياسة تشريعية واضحة للعدالة الانتقالية وتخبط قوانينها المتعددة أثرت على مساءلة المتهمين بهذه الجرائم. 

أولاً: تخبط السياسة التشريعية للهياكل التشريعية الانتقالية

منذ سقوط نظام القذافي في أكتوبر 2011، عرفت ليبيا ثلاثة هياكل تشريعية؛ هي المجلس الوطني الانتقالي (2011-2012) والمؤتمر الوطني العام (2012-2014/2016) ومجلس النواب (2014-الآن). وقد أصدرت هذه الهياكل، سواء المختارة كالمجلس الانتقالي أو المنتخبة كالمجلس الوطني ولاحقاً مجلس النواب، أكثر من 17 قانوناً يتعلق بالعدالة الانتقالية. فالمتابع للشأن التشريعي في المرحلة الانتقالية سيلاحظ حالة التخمة التشريعية المتعلقة بالعدالة الانتقالية.

وبشكل عام، فقد تميزت صناعة التشريع بعد الثورة، كما قبلها، بتأزمها لأسباب عديدة لعل أهمها مدى شرعية ومشروعية الهياكل التشريعية التي تقوم بالعمل التشريعي وإصدار القوانين، فتراوح العمل التشريعي بين هياكل تتمتع بمشروعية ثورية كالمجلس الانتقالي وبين هياكل تعاني من شكوك في مدى شرعيتها كمجلس النواب على سبيل المثال. 

انعكس هذا الأمر، بشكل خاص، على وضوح السياسة التشريعية المتعلقة بالعدالة الانتقالية في محاولة من كل هيكل من الهياكل إما التماشي مع ما يتمتع به من مشروعية ثورية كالمجلس الانتقالي المؤقت أو محاولة إضفاء مشروعية على وجوده تمكنه من تجاوز الشكوك في مدى شرعيته كمجلس النواب. 

في هذا الإطار، أصدر المجلس الوطني الانتقالي تشريعات خاصة بالعدالة الانتقالية هدفها القطع مع النظام السابق وأشخاصه كالقانون رقم 37 لسنة 2012 بشأن تجريم تمجيد الطاغية وإهانة الثورة، الذي تم إلغاؤه، لاحقا، لعدم دستوريته. وأصدر المجلس الانتقالي، أيضاً، قوانين متعلقة بإرساء العدالة الانتقالية كالقانون رقم 17 لسنة 2012 وتنقيحه بقانون رقم 41 لنفس السنة وقانون رقم 35 لسنة 2012 بشأن العفو عن بعض الجرائم، وقانون رقم 38 لسنة 2012 بشأن بعض الإجراءات الخاصة بالمرحلة الانتقالية. هذه القوانين، وبغض النظر عن الأهداف التي نصت عليها، صدرت مبكراً وبشكل استعجالي ومتخبط، وأرست عدالة انتقائية بدلاً من عدالة انتقالية. 

فقد أسست السياسة التشريعية للمجلس الانتقالي، وقتها، متجاهلة، بشكل واضح، ما ارتكب من انتهاكات خلال فترة الثورة، استثناء لجميع الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، وأعطت غطاء وحصانة كاملة للثوار من أي ملاحقة لجرائم قد ارتكبوها خلال ثورة 2012، إذ نصت المادة الرابعة من القانون 38 لسنة 2012 على أنه "لا عقاب على ما استلزمته ثورة السابع عشر من فبراير من تصرفات عسكرية أو أمنية أو مدنية قام بها الثوار بهدف إنجاح الثورة أو حمايتها". إلا أنه، وفي نفس الإطار، استثنى قانون العفو الجرائم التي ارتكبها أفراد من أسرة القذافي وأصهاره وأعوانه من نطاق تطبيقه. هذه السياسة الانتقائية شملت، أيضاً، مسألة التعويضات، إذ أصدر المجلس الانتقالي قانون رقم 50 لسنة 2012 الذي يرسخ تميزاً بين الضحايا، إذ خص السجناء السياسيين بتشريع خاص بهم رغم أن قانون العدالة الانتقالية يشملهم. 

أما المؤتمر الوطني العام؛ وهو أول هيكل تشريعي منتخب بعد ثورة فبراير 2011، فقد حاول تدارك المشاكل التي تخللت قانون المصالحة الوطنية والعدالة الانتقالية رقم 17 وتعديله من خلال إصدار قانون جديد في ديسمبر 2013 وهو القانون رقم 29 لسنة 2013؛ الذي، وبغض النظر عن المشاكل التي تخللته، جاء موسعاً نطاق تطبيق العدالة الانتقالية ليشمل الوقائع "التي حدثت اعتباراً من 1 سبتمبر 1969 إلى حين انتهاء المرحلة الانتقالية بانتخاب المجلس التشريعي بناء على الدستور الدائم." 

إلا أنه، ونتيجة الضغط الشعبي على المجلس، أصدر قانوناً جديداً يتماشى مع حالة التخبط وغياب سياسة تشريعية واضحة متعلقة بالعدالة الانتقالية وهو القانون عدد 13 لسنة 2013 بشأن العزل السياسي والإداري وتعديله رقم 28 لسنة 2012. هذا القانون أقصى كثيرًا ممن شغل، في ظل نظام القذافي، مناصب سياسية وسيادية لمدة عشر سنوات بسبب افتراض علاقتهم بالنظام السابق؛ الأمر الذي أدى إلى انقسام عميق في المجتمع؛ ما عمق الصراع السياسي والعسكري وقلص فرص تحقيق عدالة واسعة وشاملة في ليبيا، وحل محله شكل قاس من الإقصاء السياسي، وذلك في إطار صراع سياسي أوسع نطاقاً على الشرعية والسلطة في ليبيا الجديدة. 

وفي الوقت الذي انتهج فيه المؤتمر الوطني سياسة تشريعية تفرض قطيعة تامة مع النظام السابق للعقيد القذافي، انتهج مجلس النواب منهجاً أكثر تصالحية، وذلك في ظل انقسام سياسي ومجتمعي وتشكيك في شرعية تشريعاته، إذ أصدر مجلس النواب قانون العفو العام رقم 6 لسنة 2015؛ وهو عفو عام لكل الليبيين عما ارتكب من جرائم منذ 15 فبراير إلى تاريخ صدوره وهو سبتمبر 2015؛ والذي لاقى انتقادات هائلة على اعتبار أنه أحد القوانين المفصلة للعفو عن بعض الشخصيات السياسية المنتمية للنظام السابق. كما قام بإلغاء قانون العزل السياسي بقانون عدد 2 لسنة 2015 بما يرسخ سياسة تشريعية جديدة متعلقة بالعدالة الانتقالية التي وصفها البعض بالعدالة "الارتدادية". 

تميزت جميع هذه التشريعات، شأنها شأن العمل التشريعي والتشريعات بعد الثورة، بغياب السياسة التشريعية الواضحة، فأصبحت أداة للتلاعب والارتجال وفقاً لأهواء سياسية وعقائدية، ولم تأخذ بضرورة وضع تشريع يضمن إرساء عدالة انتقالية شاملة فاتخذت شكلاً تطهيرياً عقابياً، مستثنيتاً الجرائم الخطيرة بموجب القانون الدولي تارة وشكلا توافقياً تصالحياً تارة أخرى. هذا الأمر أثر على مساءلة المتهمين بارتكاب انتهاكات وجرائم بموجب القانون الدولي. 

ثانياً: أثر تخبط السياسة التشريعية على مساءلة المتهمين بانتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان 

عرفت ليبيا عقودا من القمع تحت حكم القذافي؛ تميزت بتجاوزات وانتهاكات ممنهجة لحقوق الإنسان. لم تنتهي هذه الانتهاكات مع سقوط نظام القذافي في أكتوبر 2011، بل استمرت خلال الثورة وبعدها خاصة إثر التدهور الكبير في الوضعين السياسي والأمني مع اندلاع القتال شرق البلاد وغربها وجنوبها وما لحقها، أيضاً، من النزاعات المسلحة التي اندلعت في جميع أنحاء ليبيا والانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان والتي، وبحسب بعثة التحقيق، يمكن تصنيفها جرائم خطيرة بموجب القانون الدولي، إلا أن جميع قوانين العدالة الانتقالية التي سنتها الهياكل التشريعية الانتقالية المتعاقبة وأصدرتها فشلت في معالجة هذه الانتهاكات ومساءلة المسؤولين عنها وإرساء العدالة والإنصاف للضحايا. فالتخبط في السياسة التشريعية المتعلقة بالعدالة الانتقالية، والتي اتخذت شكلاً تطهيرياً عقابياً تارة وشكلا توافقياً تصالحياً تارة أخرى، أفشل مساعي تحقيق عدالة انتقالية شاملة تضمن المساءلة عن الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان وتضمن الحق في العدالة والإنصاف لضحايا انتهاكات حقوق الإنسان.

فغياب رؤية واضحة للمرحلة الانتقالية بشكل عام وللعدالة الانتقالية بشكل خاص ترجمت إلى تشريعات تتخللها العديد من الثغرات، إذ يفترض في تشريعات المرحلة الانتقالية أن تستند إلى أساس قانوني واضح لمقتضيات الانتقال. والمقصود هنا وجود أساس دستوري واضح يضمن تأسيس الدعامات الأساسية للعدالة الانتقالية، ولعل أهمها إرساء العدالة، وبالتالي تعزيز أهداف العدالة الانتقالية والجهود المبذولة لتحقيقها، إلا أن هذا الأساس ظل غائباً عن النص الدستوري الليبي، أي عن الإعلان الدستوري وتعديلاته. ويمكن، في هذا الإطار، ذكر مثال الدستور التونسي لسنة 2014 الذي كفل العدالة الجنائية في مادته 148 لتغليبها على طلبات العفو بما يضمن مساءلة ومحاسبة مرتكبي الانتهاكات الخطيرة لحقوق الإنسان. 

أما على المستوى التشريعي، فقد أسس تخبط القوانين المتعددة التي أصدرتها الهياكل لظاهرة إفلات كل من الجهات التابعة للدولة والجهات الأخرى من العقاب عن الجرائم المرتكبة أثناء ثورة 2011 وما بعدها، إذ لم تحترم النصوص القانونية واجب إرساء منظومة متكاملة وشاملة للعدالة الانتقالية تضمن المساءلة عن الجرائم الخطيرة بموجب القانون الدولي. 

في هذا السياق، جاء نص القانون رقم 38 لسنة 2012 بشأن بعض الإجراءات الخاص بالمرحلة الانتقالية واضحاً بشأن الجرائم التي تم القيام بها من قبل الثوار بهدف إنجاح الثورة أو حمايتها، إذ اعتبر القانون أن جميع ما قام به الثوار لإنجاح الثورة لا يستلزم عقابا أو ملاحقة، بما يحصن مرتكبي الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان ضد المسؤولية الجنائية.

وفي محاولة لتجاوز ذلك، أصدر المؤتمر الوطني العام قانون رقم 29 لسنة 2013؛ الذي يعد أوسع وأشمل، إلا أن الغموض يحيط بنص القانون فيما يتعلق بتطبيق مقتضياته على الجرائم المرتكبة خلال الثورة وما بعدها. ويعود المشرع الليبي مرة أخرى إلى إصدار قانون رقم 6 لسنة 2015 المتعلق بالعفو العام عن الليبيين الذين ارتكبوا جرائم خلال فترة الثورة. 

جميع هذه القوانين تؤسس، سواء بنصها على عفو عن بعض الجرائم المرتكبة أو بغموض نصوصها فيما يتعلق بالجرائم المرتكبة خلال الثورة وما بعدها، لظاهرة الإفلات من العقاب بما يخالف التزامات ليبيا بالتحقيق في الجرائم بموجب القانون الدولي، إذ أن العفو عن هذه الجرائم ممنوع بموجب القانون الدولي إذا كانت (1) تمنع مقاضاة أشخاص ربما كانوا مسؤولين عن ارتكاب جرائم حرب أو إبادة جماعية أو جرائم ضد الإنسانية أو انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان. (2) تتعارض مع حق الضحايا في الحصول على سبيل انتصاف فعال، بما في ذلك الجبر. (3) تقيد حق الضحايا والمجتمعات في معرفة الحقيقة بشأن انتهاكات حقوق الإنسان والقانون الإنساني. 

ينتهك عدم مساءلة المتهمين في الجرائم الخطيرة بموجب القانون الدولي حق الضحايا في الوصول إلى العدالة والانتصاف الفعال المنصوص عليه في المادة 2 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية. بالإضافة لذلك، فإن عدم التحقيق في مثل هذه الانتهاكات وعدم مقاضاة مرتكبيها يشجع على إرساء ثقافة الإفلات من العقاب ويساهم في تكرار مثل هذه الانتهاكات.

ولا يمكن القول بأن سبب فشل مسار العدالة الانتقالية هو السياسة التشريعية المفتقرة لرؤية واستراتيجية واضحة فقط، إذ أن فشل مسار العدالة الانتقالية يتنزل في إطار أوسع وأشمل ألا وهو ظاهرة الإفلات من العقاب التي تعاني منها ليبيا منذ فبراير 2011. فقد تحولت ليبيا خلال السنوات الأخيرة إلى واحدة من أكثر دول العالم التي تنتشر فيها ظاهرة الإفلات من العقاب بسبب حالة عدم الاستقرار والفوضى التي تعيشها البلاد منذ سنوات نتيجة تردي الأوضاع الأمنية والسياسية، وخاصة إثر الانقسام الذي شهدته البلاد سنة 2014 والذي شكل بيئة حاضنة لظاهر الإفلات من العقاب بشكل عام. فسيادة الدولة على كامل إقليمها شرط وضرورة لتفعيل أي تشريع، وخاصة التشريعات ذات الأهمية خلال الفترة الانتقالية مثل تشريعات العدالة الانتقالية.

فبالإضافة لما يعانيه القضاء من تحديات قانونية متعلقة بمستوى الاستقلالية، تشكل التداعيات السلبية لهيمنة المجموعات المسلحة على القضاء وتدهور الوضع الأمني عقبة أساسية أمام سير أعمال القضاء باستقلالية وفعالية، إذ تعرض النظام القضائي الليبي للعديد من الاعتداءات العنيفة والتهديدات بالقتل وأشكال أخرى من الترهيب بما يشكل تهديدا لسلامة موظفي السلطة القضائية، وذلك في ظل عجز أجهزة الأمن والشرطة القضائية الحكومية عن تهيئة بيئة مأمونة تمكن السلطة القضائية من العمل بفاعلية واستقلالية. 

وفي نفس الإطار، ساعد الانقسام السياسي الليبي والنزاع المسلح على تبديل الأولويات، فتركزت الجهود والاهتمام على حل النزاعات والانقسامات المستمرة بدلاً من تحقيق الانتقال إلى الديمقراطية بما يشمل إنشاء منظومة عدالة انتقالية فعالة وبناء مؤسسات ديمقراطية؛ الأمر الذي أثر، بدوره، على انعقاد الانتخابات وبروز مرشحين متهمين بجرائم خطيرة بموجب القانون الدولي لحقوق الإنسان. 

الخاتمة: 

يتطلب تحقيق المصالحة الوطنية في ليبيا تطبيقًا لا لبس فيه لمبدأ المساءلة. فذلك مهم لا فقط لضحايا انتهاكات حقوق الإنسان وعائلاتهم ولكنه يشكل، أيضًا، ضرورة أساسية للمجتمع الذي يعيش الانتقال من حكم استبدادي إلى ديمقراطي؛ ما يعزز السلام والاستقرار. فمن الضروري تطبيق وإعمال الالتزامات المتعلقة بمساءلة المتهمين في الجرائم المرتكبة قبل وخلال فترة الثورة الليبية، إذ أنها وسيلة للاعتراف بالضحايا كأصحاب حقوق، وتمثل فرصة للنظام القانوني والقضائي لترسيخ مصداقيته؛ فذلك يعزز سيادة القانون ويساهم في مسار العدالة الانتقالية وفي تحقيق المصالحة الوطنية. 

ولا يمكن تحقيق مسار ناجح للعدالة الانتقالية إلا بتوفر مجموعة من الشروط لعل أهمها نظام دستوري مستقر يُعلي من شأن العدالة الانتقالية، وتوحيد مؤسسات الدولة، وإجماع وطني حول أهمية العدالة الانتقالية ودورها في إرساء الاستقرار والسلام المستدام. 

Diaa Shaquoura

Researcher in public law, interested in issues related to civil and political rights in his research. Currently, Mr Shaqoura is preparing a doctoral thesis on constitutionalism in post-Arab Spring countries.

Previous
Previous

ميزان القضاء: المنظمة الليبية للقضاة: "انعدام الأمن هو التحدي الأكبر الذي يواجه دولة القانون وضمانات حقوق الإنسان في ليبيا"

Next
Next

ميزان الدستور: تعطيل الدائرة الدستورية والحق في الوصول إلى العدالة