مذكرة التفاهم بين الاتحاد الأوروبي وتونس: ظروفها وإطارها وحدودها

مسعود الرمضاني

ناشط و مدافع عن حقوق الإنسان وهو رئيس سابق للمنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية و للرابطة التونسية لحقوق الإنسان (نائب رئيس).

في يوم 16 يوليو 2023، وبعد سلسلة من الزيارات المتكررة للسيدة جورجيا ميلوني، رئيسة حزب "إخوة إيطاليا" اليميني المتطرف ورئيسة وزراء إيطاليا، إلى تونس، توصل الاتحاد الأوروبي، ممثلا برئيسة المفوضية الأوروبية، اورسولا فان دير لاين ، ورئيس وزاء هولندا، مارك روتي ، ومعهما السيدة ميلوني، إلى إمضاء مذكرة تفاهم مع الرئيس التونسي ،قيس سعيد.

ورغم أن المذكرة تضمنت عديد مجالات التعاون، منها الاقتصادي والتجاري والطاقي والانتقال الرقمي، إلا أن قضية الهجرة حازت الاهتمام الأكبر، وأثارت انتقادات كبيرة، حيث هُمش التنصيص الصريح لقضايا مثل حقوق المهاجرين وطالبي اللجوء، خاصة وأن المذكرة امضيت حين كان آلاف المهاجرين الافارقة من جنوب الصحراء يعيشون أوضاعا جدّ صعبة في تونس، بين خطابات عنصرية تجرّم وجودهم في تونس وتهجير قسري إلى الحدود الليبية والجزائرية، تسبب في عديد الوفيات في الصحراء، كما تعالت أصوات منظمات حقوقية دولية تعتقد أن إمضاء هكذا اتفاقية مع الحكومة التونسية، في تجاهل تام لما يحدث من انتهاكات لحقوق الإنسان وفي واقع حكم فردي قمع كل سلطة مضادة وضرب كل المؤسسات المستقلة، هو غض الطرف عن مبادئ شراكة سابقة تنصص في فصولها على ضرورة احترام حقوق الإنسان وهذا يعتبر تزكية للأنظمة الاستبدادية في جنوب المتوسط، أنظمة اتقنت، عبر تجربة عقود، ابتزاز الدول الغربية بعد ما تأكدت من أن "الاتحاد الأوروبي ينظر للعلاقات مع الدول الأخرى على الساحل الجنوبي من منظار الهجرة [1] فقط".

موسم الهجرة إلى الشمال

بالنسبة للاتحاد الأوروبي الذي أصبحت الهجرة غير النظامية شغله الشاغل وشرطا أساسيا من شروط الشراكة مع دول جنوب المتوسط فإن الضغط من أجل اتفاق إطاري مع تونس يعتبر أمرا حيويا ، لأن هذه الأخيرة هي بلد منشأ ،تدفع الظروف الاقتصادية والاجتماعية التي تزداد قسوة سنة بعد سنة بآلاف المواطنين الذين لم يسعفهم الحظ في الحصول على تأشيرة إلى أوروبا إلى ركوب البحر، مهما كانت المخاطر، كما أنها بلد عبور يقصده كل سنة أعداد غفيرة من الأفارقة من جنوب الصحراء الذين يعانون في بلدانهم من عوامل طاردة، مثل الفقر والبطالة والحروب الأهلية والتغييرات المناخية والأزمات السياسية للبقاء مؤقتا في تونس حتى تتوفر لهم فرصة المرور نحو السواحل الأوروبية.

حتى أن سنة 2023 تعتبر استثنائية بالنسبة للهجرة غير النظامية، إذ حسب المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، فإن عدد المهاجرين غير النظاميين الذين وصلوا إلى إيطاليا خلال الخمسة أشهر الأولى قد بلغ 50 ألف شخصا (لم يكونوا إلا 19 ألفا في سنة 2022) وأن نصف هؤلاء قد غادروا من السواحل التونسية.[2]

لذلك كانت تصريحات الجانب الأوروبي تتمحور حول مدى استجابة الطرف التونسي للعب الدور المطلوب أي إيقاف الهجرة غير النظامية وحماية الحدود الأوروبية من "زحف" المهاجرين وطالبي اللجوء، قالت فانديرلاين بعد إمضاء المذكرة، "نحتاج اليوم إلى تعاون فعال، أكثر من أي وقت مضى".[3]

إهمال حقوق الإنسان وجريمة الابعاد القسري

لكن وإن لم تعد احترام مبادئ حقوق الإنسان تهم كثيرا الحكومات اليمينية الأوروبية التي جعلت من التخويف من المهاجرين حصان طروادة للفوز بالانتخابات، وهي حكومات تفتخر بقدراتها على استدراج مستبدين من جنوب المتوسط لتكليفهم بمراقبة الحدود الأوروبية ومنع وصول المهاجرين، فإن العديد من الأصوات الحقوقية والبرلمانية الأوروبية قد تعالت منددة بالمذكرة وملابسات إمضائها.

حسب منظمة هيومن رايتس ووتش، فإن الاتحاد الأوروبي يعتبر شريكا في الانتهاكات التي حصلت للمهاجرين الأفارقة من قبل السلطات التونسية لأنه تخلى عن تعهداته العديدة بتعزيز حقوق الإنسان والديمقراطية، فمذكرة التفاهم "المثيرة للجدل" لم تشر إلى "إنهاء الانتهاكات ضدّ الأفارقة السود في البلاد (تونس)، ناهيك عن الإعلان عن تدابير للتصدي لهذه الانتهاكات". وقد ذكرت المنظمة الحقوقية بالاتفاق الذي حصل سنة 2008 بين العقيد معمر القذافي وحكومة سيلفيو برلسكوني الإيطالية والذي بموجبه تم احتجاز مهاجرين وطالبي اللجوء من الأفارقة "لأجل غير مسمى"، وذلك بغاية منعهم من الوصول إلى أوروبا .[4]

أما المفكرة القانونية فقد اعتبرت أن الإبعاد القسري للمهاجرين الأفارقة إلى الحدود الليبية والجزائرية جريمة ضد الإنسانية مكتملة الأركان، وأن مسؤولية الاتحاد الأوروبي لا تقل في شيء عن مسؤولية السلطات التونسية. وليس أدل على ذلك من تزامن الجريمة ضد الإنسانية في تونس مع إمضاء مذكرة التفاهم بين تونس والاتحاد الأوروبي، محورها الأساسي التصدي للهجرة، وليس ذلك غريبا، بالنظر إلى التواطؤ الأوروبي في الفظاعات التي حصلت ولا تزال في ليبيا في حق المهاجرين. [5]

منع الاقتصاد التونسي من الانهيار

يبدو أن الاتحاد الأوروبي ، على الأقل في مستوى أغلب حكوماته وصناع قراره، غير مهتم بقضايا حقوق الإنسان في جنوب المتوسط، وذلك سواء على مستوى أداء الحكومات الداخلي ومدى التزامها بمبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان أو فيما يتعلق بالتعامل مع المهاجرين وطالبي اللجوء. فالنقاط التي حازت على أكثر أهمية بعد مذكرة التفاهم هي مدى قدرة السلطات التونسية على منع المهاجرين من الوصول إلى الحدود الأوروبية بأية طريقة وعودة المرحلين التونسيين من الدول الأوروبية والتزام السلطات التونسية باستعادة مواطنيها والاستعداد لضخ بعض الأموال للحيلولة دون وصول تونس إلى حالة الإفلاس [6]، درء لتدفق مئات آلاف من المهاجرين إلى أوروبا. وهو ما أشار إليه بكل وضوح جوزيب بورال، مفوض الشؤون الخارجية بالاتحاد الأوروبي، حين صرّح، قبل أشهر قليلة من المذكرة، بأن "الوضع في تونس خطير جدا ويجب منع الانهيار"، محذرا بأنه "إذا ما إنهارت تونس اقتصاديا واجتماعيا ، فهذا يعني مواجهتنا لأفواج جديدة من المهاجرين."[7]

خطاب متناغم

في الحقيقة ما شجع حكومات أوروبا إلى الإسراع بعقد اتفاق مع تونس ليس كثافة المهاجرين غير النظاميين فقط ولا أيضا الظرف الاقتصادي الصعب الذي يجعل الدولة التونسية تقبل بتقديم التنازلات، لكن أساسا الخطاب العنصري الذي قدمته السلطات التونسية والذي يتناغم بشكل كبير مع الخطاب اليميني المتطرف. حيث أثار رئيس الجمهورية قيس سعيد عاصفة من ردود الأفعال المستنكرة حين علّق بعد اجتماع المجلس القومي، في فبراير 2023، بأن تونس مستهدفة بالهجرة وأن وجود أعداد كبيرة من الأفارقة من جنوب الصحراء هو بمثابة "المؤامرة" التي تستهدف تغيير التركيبة السكانية للبلاد وأن هؤلاء المهاجرين قد كانوا السبب في تفاقم الجريمة. وهذا خطاب إدانته المنظمات الحقوقية والمنظمات الدولية، حيث صرّح رئيس المفوضية الافريقية بان "التصريحات الصادمة للسلطات التونسية ضد الإخوة الأفارقة تتعارض مع مبادئ الاتحاد الأفريقي ورسالته."[8] كما اعتبرت منظمة العفو الدولية أن الخطاب شجّع على العنف "إذ نزلت (اثر الخطاب) مجموعات من الأشخاص إلى الشارع وهاجموا المهاجرين والطلاب الأفارقة السود واحتجز أفراد الشرطة العشرات منهم وعمدوا إلى ترحيلهم." [9]

صعوبات التطبيق

لكن رغم بوادر الارتياح الذي عبر عنه الأطراف الأوروبية، خاصة السيدة ميلوني والسيدة فاندرلاين، حيث بدا وكأن الطرف التونسي كان مستعدا للعب الدور المنوط بعهدته من أجل منع المهاجرين من الوصول إلى الحدود الأوروبية، فإن صعوبات عديدة ظهرت على السطح بعد أسابيع قليلة من الابتسامات و المصافحات التي رافقت الإمضاء وحوّلت الانتصار إلى ما يشبه خيبة الأمل.

جاءت أول هذه العراقيل من داخل البرلمان الأوروبي الذي رأى في الاتفاق دعما للنظام التونسي، الذي أصبح محل انتقادات واسعة داخل الأوساط الأوروبية منذ استيلاء قيس سعيد على السلطة في 25 يوليو 2021، وحلّ البرلمان المنتخب ديمقراطيا وضرب السلطة القضائية والتضييق على المعارضة.

فقد انتقد أعضاء عديدون من البرلمان الأوروبي إبرام تلك المذكرة والتعامل مع ما اسموه "الديكتاتورية في تونس"، وقالت عضوة البرلمان بيرجيت سيبال، "الآن نموّل مستبدا دون أدنى تدقيق سياسي داخل المجلس وهذا ليس حلّا ، مثل هذا الاتفاق سيقوّي الاستبداد في تونس"،[10] ثم انتقدت ترحيل السلطات التونسية للمهاجرين الأفارقة إلى الحدود الجنوبية التونسية معتبرة "أن السلطة التونسية قد رمت بالمهاجرين في الصحراء دون غذاء ولا ماء ولا أي شيء آخر."[11]

ولم يقتصر النقد للمذكرة على البرلمان الأوروبي ، بل أن بعض الحكومات الأوروبية عبرت عن رفضها لها بسبب ما اعتبرته تسرعا وإهمال لملف حقوق الإنسان. فقد قالت وزيرة الخارجية الألمانية انالينا بيربوك “أن حقوق الإنسان و الأخطاء الإجرائية يشيران إلى أن المذكرة لا تصلح كخطة للمستقبل”،[12] مضيفة ضرورة أن “تسترشد بالديمقراطية وحقوق الإنسان وسيادة القانون في تعاونها، وهو أمر لم يحظ بالاعتبار المناسب في الاتفاق مع تونس[13].

ولم يقتصر النقد للمذكرة على البرلمان الأوروبي ، بل أن بعض الحكومات الأوروبية عبرت عن رفضها لها بسبب ما اعتبرته تسرعا وإهمال لملف حقوق الإنسان. فقد قالت وزيرة الخارجية الألمانية انالينا بيربوك "أن حقوق الإنسان و الأخطاء الإجرائية يشيران إلى أن المذكرة لا تصلح كخطة للمستقبل"،[12] مضيفة ضرورة أن "تسترشد بالديمقراطية وحقوق الإنسان وسيادة القانون في تعاونها، وهو أمر لم يحظ بالاعتبار المناسب في الاتفاق مع تونس[13].

هكذا نرى أن بلدان الاتحاد الأوروبي ليس لها نفس الموقف إزاء التعامل مع المهاجرين، فبينما ترى الحكومة اليمينية في إيطاليا وبعض الحكومات الأخرى القريبة منها والتي أسست سرديتها الانتخابية على مواجهة الهجرة غير النظامية، أن المذكرة تعتبر منعرجا مهما وبداية "شراكة حقيقية" مع بلدان جنوب المتوسط، ترى حكومات أخرى وجوب اعتبار عوامل أخرى مثل حقوق الإنسان ودولة القانون...

تونس تراجع موقفها

أحرجت الأصوات الغاضبة داخل الفضاء الأوروبي الحكومة التونسية التي رأت أنها قامت بما يجب القيام به، وأن تبنيها لخطاب حاد تجاه المهاجرين وارغامهم على العودة إلى مواطنهم وتهجير العديد منهم على الحدود واستعادة التونسيين غير المقيمين في الدول الأوروبية، كل هذا سيرضي الاتحاد الأوروبي ويرغمه على الصمت والتوقف عن "معزوفة حقوق الإنسان"، وربما لم يكن يدرك أن الاتحاد الأوروبي ليس كتلة متجانسة وأن الفضاءات الأوروبية تزخر بالتناقضات ووجهات النظر المختلفة، والتي تعكس تنوع المصالح والقناعات ...

لذلك جاءت ردود الفعل التونسية الرسمية متشنجة، بل وأحيانا غاضبة و مهددة بالتراجع عن الاتفاق المبدئي، ولعل السبب الأساسي هو ما أثاره البرلمان الأوروبي من انتقادات حادة أحيانا تجاه ما يحصل في تونس، سواء تجاه المهاجرين والتوجه السياسي الرسمي ، وقد اعتبرت تلك الانتقادات تدخلا سافرا في الشؤون الداخلية. كما رفضت تونس، في شهر أيلول /سبتمبر 2023، أي حوالي شهرين بعد المذكرة، زيارة وفد من لجنة الشؤون الخارجية التابعة للبرلمان الأوروبي، يترأسه الألماني مايكل جاهلر، جاء "لدراسة الوضع السياسي بعمق".

وقد اعتبر جاهلر أن رفض الزيارة سابقة لم تحدث منذ ثورة 2011، ملمحا إلى لبّ الأشكال مع الحكومة التونسية بقوله "سنظل دائما ساعين إلى شراكة شاملة تتضمن مساندة الديمقراطية وحقوق الإنسان المنصوص عليها باتفاقية الشراكة."[14]

مثل هذه المواقف الأوروبية الناقدة أغضبت السلطات التونسية وخاصة رئيس الجمهورية التونسية الذي قال يوم 2 أكتوبر 2023 "إن تونس التي تقبل التعاون (مع الاتحاد الأوروبي)، لا تقبل ما يشبه المنّة أو الصدقة..." وأنها "ترفض ما تم الإعلان عليه خلال الأيام القليلة الماضية من قبل الاتحاد الأوروبي." للتذكير، فإن المفوضية الأوروبية قد صرحت خلال شهر أيلول /سبتمبر 2023 أنها ستساعد تونس بما قدره 127 مليون يورو بهدف مكافحة الهجرة غير النظامية .

"أوروبا أو الموت في البحر"

ولكن هناك مدعاة أخرى للإحباط الأوروبي من إمكانية أن تلعب تونس دورا مهما في إيقاف تدفق المهاجرين سواء التونسيين أو الأفارقة من جنوب الصحراء، إذ سجلت وزارة الداخلية الإيطالية ارتفاعا في عدد الواصلين بنسبة 30 بالمائة خلال الستة أسابيع التي تلت المذكرة ، وذلك مقارنة بالستة أسابيع التي سبقت 16 يوليو 2023، تاريخ الامضاء.[15]

هل تغاضت تونس عن مراقبة الهجرة، خاصة بعد أن صرّح رئيسها ووزير خارجيتها بأن البلاد "لن تكون حارسة الحدود الأوروبية"؟ وهل هناك نيّة في التراخي من أجل مزيد مقايضة الاتحاد الأوروبي، مثلما فعلت الأنظمة في شمال أفريقيا خلال العقد الذي سبق ما سمي بالربيع العربي؟

من الصعب فهم مزاج السلطة في تونس وتقلباته، لكن هناك أمر مؤكد وهو أن السياسة الأمنية الأوروبية، أثبتت أنها لا تحقق حماية حدودها وأن الهجرة غير النظامية ليست مرتبطة بمدى تكثيف حراسة الحدود، بل بما يحدث في جنوب المتوسط من أزمات تجعل منطقة شمال أفريقيا والشرق الأوسط والساحل الأفريقي مناطق طاردة لمواطنيها. كما صرّح أحد المتابعين لقضايا الهجرة "لا يهم أن تضاعف الحكومات من أعداد قوات الأمن أو أن تضاعف من عمليات المراقبة، هناك دائما مهاجرون يبحثون عن حياة أفضل [16] مهما كانت المخاطر".

فالمخاطر عديدة وإمكانية الغرق واردة، خاصة وأن المهاجرين أصبحوا يغامرون بركوب قوارب لا تتوفر فيها إجراءات السلامة وأحيانا ما يكون العدد الموجود يفوق 4 أو 5 مرات حمولة المركب. ولا غرابة أن تعلن منظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونسيف) أن عدد الذين قضوا أو فقدوا في البحر المتوسط خلال سنة 2023، قد تضاعف ثلاث مرات خلال سنة 2023، مقارنة بسنة 2022، و"ذلك في خضم مفاوضات أوروبية بشأن الهجرة"، وأن "البحر المتوسط أضحى مقبرة أطفال". وحسب المنظمة الأممية، فأن "عوامل الحروب والعنف والفقر هي التي تدفع بالأطفال للهروب من بلدانهم الأصلية دون مرافقة."[17]

فشل المقاربة الأمنية

منذ عقود ومع تزايد عدد المهاجرين غير النظاميين، ظلت أوروبا تنظر إلى الهجرة من منظور أمني صرف، وقد ركزت وسائل مراقبة معقدة و أبرمت اتفاقات مع دول المنشأ ودول العبور من أجل تكليفها بالمراقبة ومنع المهاجرين غير النظاميين من الوصول إلى حدودها، وقد كلفها ذلك جهودا ديبلوماسية مضنية وأموالا طائلة، تذهب في أغلبها إلى غير ما رصدت إليه، نظرا لغياب الشفافية والمحاسبة واستقلالية المؤسسات. ورغم المجهودات الأمنية الكبيرة ، فأن ذلك لم يحد من ارتفاع عدد المهاجرين، وحين تتكثف الحراسة وتشتد في زاوية ما من المتوسط ، فإن المهربين، الذين يحوزون على أموال طائلة، أصبحوا قادرين على إيجاد طرق أخرى أكثر تكلفة وأشد خطورة للمهاجرين ، ولكنها لا تثنيهم من ركوب مخاطر "قوارب الموت".

الاتفاقيات التي تبرم مع دول الجنوب، في أغلبها غير ذات فاعلية، باعتبار أن الأنظمة، مهما راقبت حدودها ومهما كثفت من دورياتها الأمنية، فإنها كثيرا ما تفشل في مراقبة شواطئها، أما لنقص الإمكانيات ولتشعب شبكة العلاقات التي يربطها المهربون أحيانا مع حراس الحدود والأجهزة الأمنية عموما. بل أن هذه الأنظمة نفسها، أحيانا ما تستعمل الهجرة للضغط على الاتحاد الأوروبي، أما من أجل ابتزاز مزيد من الأموال أو للضغط على دول أوروبية التي لازالت تذكّر بالمعاهدات السابقة التي تشترط احترام حقوق الإنسان والحوكمة الرشيدة والديمقراطية عند إمضاء اتفاقيات الشراكة مع دول الجنوب.

كشفت مذكرة التفاهم بين تونس والاتحاد الأوروبي أن الحكومات الاوروبية لم تعد تهتم بالقوانين والمعاهدات الدولية لحماية المهاجرين وطالبي اللجوء، على غرار معاهدة جنيف وبروتوكوليها المعدل سنة 1967، كما أنها مستعدة للتغاضي كليا عن معاهدات سابقة تشترط الحد الأدنى من احترام حقوق الإنسان عند التعامل مع دول جنوب المتوسط، مثل اتفاقية برشلونة التي تشكلت، سنة 1995، بين بلدان الاتحاد الأوروبي ودول جنوب المتوسط والتي تعمل على شراكة أساسها "احترام حقوق الإنسان والحريات العامة وحرية التعبير وتكوين الجمعيات ذات الأبعاد السلمية واحترام حرية الضمير والحريات الدينينة."[18]

الاتفاقيات التي تبرم مع دول الجنوب، في أغلبها غير ذات فاعلية، باعتبار أن الأنظمة، مهما راقبت حدودها ومهما كثفت من دورياتها الأمنية، فإنها كثيرا ما تفشل في مراقبة شواطئها، أما لنقص الإمكانيات ولتشعب شبكة العلاقات التي يربطها المهربون أحيانا مع حراس الحدود والأجهزة الأمنية عموما. بل أن هذه الأنظمة نفسها، أحيانا ما تستعمل الهجرة للضغط على الاتحاد الأوروبي، أما من أجل ابتزاز مزيد من الأموال أو للضغط على دول أوروبية التي لازالت تذكّر بالمعاهدات السابقة التي تشترط احترام حقوق الإنسان والحوكمة الرشيدة والديمقراطية عند إمضاء اتفاقيات الشراكة مع دول الجنوب.

فالحكومات اليمينية التي فازت في الانتخابات مستعملة بعبع تدفق "جحافل المهاجرين"، حولت الهجرة من ظاهرة إنسانية واقتصادية واجتماعية إلى ظاهرة أمنية صرفة، تتداخل فيها عدة عوامل أهمها الخشية من تغيير الهوية الأوروبية، إضافة إلى وصم المهاجرين بكل النعوت، على أنهم السبب الرئيسي في البطالة والإرهاب والجريمة، لذلك هي في حاجة إلى حليف يتماهى مع خطابها ويتعامل مع المهاجرين بنفس القسوة التي يعاملون بها هؤلاء داخل مراكز الاحتجاز في إيطاليا وغيرها من البلدان الأوروبية الأخرى، قبل أن يقع ترحيلهم قسرا إلى بلدانهم الأصلية. لكنها هذه المرة وجدت في السلطات التونسية حليفا عنيدا، قادر على التراجع في اي لحظة، أما لتحسين شروط التفاوض والمقايضة أو بسبب غضب من بعض الأصوات التي تنتقد سجله الحقوقي، مثل تلك الأصوات التي تعالت خلال جلسة المساءلة بالبرلمان الأوروبي يوم 18 يوليو 2023، صادرة عن نواب يساريين وخضر، اعتبرت المذكرة تطبيعا مع الديكتاتورية ومتاجرة بحقوق اللاجئين.

لذلك لم تتخذ مذكرة التفاهم صبغة قانونية لتصبح اتفاقا ملزما للطرفين التونسي والأوروبي، نظرا إلى حالة الانقسام داخل البرلمان الأوروبي وكذلك التعلل التونسي بالسيادة الوطنية واستقلالية القرار، وفي الأثناء يواصل المهاجرون غير النظاميين وطالبو اللجوء، توافدهم وتتزايد أعدادهم كلما ازدادت المعاناة في بلدانهم، وهم غير عابئين بمذكرات التفاهم ولا بالمعاهدات ولا بتكثيف الأمن على الحدود ولا حتى بمخاطر ركوب "قوارب الموت"، إذ قال أحدهم "نحن في جميع الأحوال ميتين في أوطاننا."

__

[1] - مهاجر نيوز "المال مقابل حماية الحدود ...ماذا نعرف عن صفقة الهجرة مع تونس" 27/07/2023، https://urlz.fr/ooFh

[2] - Cité par France 24, « le Pacte entre l’UE et la Tunisie, un nouveau « modèle » face à la crise migratoire, publié le 17/07/2023, https://urlz.fr/ooPc

[3] - EU External Partners: EU’s Dodgy Deal with Tunisia Sparks Outcry Amid Continued Crackdown Against Sub-Saharan Migrants by the Regime, 26 July 2023, European Council on Refugees and Exiles.

[4] - الهوس بالهجرة يقتل التزام "الاتحاد الأوروبي " بحقوق الانسان، 21 سبتمبر /أيلول 2023، منظمة هيومن رايتس ووتش

https://rb.gy/3ud3b4

[5] - مهدي العش: "الابعاد القسري للمهاجرين في الصحراء، جريمة ضد الإنسانية اجابه بالإنكار" 18-08- 2023، المفكرة القانونية

[6] - تقضي الاتفاقية بمنح تونس 675 مليون يورو لمساعدتها اقتصاديا هذه السنة، منها 105 مليون يورو مخصصة لإدارة الهجرة غير النظامية

[7] - "جوزيب بوريل : الوضع في تونس خطير جدا ويجب منع حالة الانهيار " 20 مارس 2023، الترا تونس

[8] - « Le Président de la Commission de l’Union Africaine condamne fermement les declarations raciales sur des compatriotes Africains en Tunisie » 24 Février 2023

[9] - "تونس: الخطاب العنصري للرئيس يحرّض على موجة عنف ضد الافارقة السود" 10-03-2023، منظمة العفو الدولية

[10] - https://urlz.fr/opCB “MEPs blast European Commission for Signing a Deal with “Tunisia’s Cruel Dictator,” 18/07/2023, Euronews

[11] - المصدر السابق

[12] - ازمة المهاجرين، المانيا تنضم لقائمة منتقدي انفاق الهجرة بين "أوروبا" وتونس، نشر في 23 سبتمبر 2023، العربية https://urlz.fr/opCZ

[13] - المصدر السابق

[14] https://urlz.fr/opKi Lisa O’ Caroll, “MPs refused entry to Tunisia two months after signing of migration deal”, 14 September 2023, The Guardian.

[15] - Lorenzo Fruganti, Tunisia, « Tunisia : Stabilità cercasi », 18 set 2023, INSTITO PER GLI STUDI DI POLITICA INTERNAZIONALE, https://rb.gy/2kicz2

[16] - Stephen Quillen «C’est l’Europe ou la mort: l’argent de l’UE n’empêche pas les migrants de fuir la Tunisie. »20 Aout 2023, Kapitalis https://rb.gy/w25lft

[17] "- La Méditerranée, un "cimetière pour les enfants", selon l'Unicef », Radiotélévision Suisse (RTS), 29 septembre 2023. https://rb.gy/dcxno8

[18] - Déclaration de Barcelone, (27-28 Novembre 1995, Centre Virtuel de la Connaissance sur l’Europe. https://rb.gy/1yjji9

Massaoud ROMDHANI

A human rights activist and defender, former president of the Tunisian Forum for Economic and Social Rights and the Tunisian League of Human Rights Vice president

Previous
Previous

ليبيا: علاقة المنظمات غير الحكومية بإدارة الهجرة في مواقع العبور

Next
Next

حوار حول الهجرة والمهاجرين