ليبيا: الحماية الدستورية لحقوق الإنسان في مشروع الدستور الليبي
يمثل احترام وحماية حقوق الإنسان أحد أساسات دولة سيادة القانون بما تشمله من فصل بين السلطات واحتكام جميع الأفراد والمؤسسات العامة والخاصة للقانون. يلعب الإطار الدستوري دوراً هاماً في هذا السياق من خلال تنظيم علاقة مؤسسات الدولة وسلطاتها ووظائفها ببعضها البعض من جانب، وبين تلك الأخيرة والأفراد في المجتمع من جانب آخر. إذ تتطلب الحماية الفعلية لحقوق الإنسان، إطاراً دستورياً يحتوي على ضمانات لحماية واحترام وإعمال حقوق الإنسان، وأن يكون قد تم اعتماده من خلال هيئة تمثيلية على أثر عملية تشاركية على المستوى الوطني.فتمثل عملية وضع دستور جديد أو عملية تعديل إطار دستوري قائم حدثاً مهماً للدولة والمجتمع وفرصة لتعزيز الضمانات الدستورية لحماية حقوق الإنسان. فإعمال سيادة القانون واحترام حقوق الإنسان يبدأ بوضع دستور جديد وطريقة تصميم مسار وضع هذا الدستور لما له من تأثير على النص النهائي للدستور سواء من حيث محتواه أو من حيث مشروعيته وفعاليته. في هذا الإطار، اعتمدت الهيئة التأسيسية لصياغة مشروع الدستور الليبي، في ظل انقسام سياسي، مشروع الدستور بموافقة أكثر من ثلثي أعضاءها وذلك بعد 74 جلسة عامة للهيئة التأسيسية في يوليو 2017. يمكن القول بأن اعتماد هذا المشروع جاء بعد مسار يمكن وصفه بالتشاركي، إذ قامت الهيئة التأسيسية، وهي الهيئة المكونة من أعضاء ممثلين من جميع أنحاء ليبيا، بالتواصل مع الأطراف السياسية والاجتماعية طوال عملية صياغة المشروع سواء من خلال قنوات رسمية أو غير رسمية، وكانت مداولاتها علنية وشفافة نسبياً. كان من المفترض أن يعرض مشروع الدستور إلى الاستفتاء لاعتماده كما كان مقرراً حسب الإعلان الدستوري وتعديلاته، إلا أنه وبعد مرور أكثر من خمس سنوات على الانتهاء منه، لم يعرض بعد. بعد تعثر إجراء الانتخابات الرئاسية والتشريعية المقررة في ديسمبر 2021، بحسب ما كانت تقتضيه خريطة الطريق الأممية للحل السياسي، عاد الحديث عن ضرورة تفعيل مشروع الدستور الليبي لسنة 2017 وإجراء انتخابات وفقه بعد الاستفتاء عليه. بالإضافة لذلك، فقد أعاد الحديث عن مشروع الدستور التساؤل حول مدى احتوائه على ضمانات لحقوق الإنسان، بمعنى آخر، وجود نص مكرس لهذه الحقوق والحريات بالإضافة للإجراءات والمؤسسات التي تضمن احترام النص المكرس لها؟ ستطرق الورقة بشكل عام لكل من الحقوق وضماناتها بما في ذلك الجانب المعياري لضمان حقوق الإنسان والمؤسسات الضامنة لاحترام تلك الأخيرة (أولاً)، كما ستتطرق للإجراءات بتحديد الحقوق والحريات (ثانياً).
الحقوق وضماناتها
تكريس الحقوق والحريات في مشروع الدستور:
عادة ما تتقدم وثيقة الدستور مقدمة اصطلح على تسميتها توطئة أو ديباجة، وهي ليست بالأمر الضروري، فقد نجد بعض الدساتير دون مقدمة. إلا أن الاتجاه العام لمختلف الدساتير هو تبني مقدمة مقتضبة تتضمن رد فعل على الماضي وتطلع للمستقبل. توجد في العديد من الدساتير إشارات في المقدمة إلى قيم مثل احترام حقوق الإنسان والكرامة الإنسانية وسيادة القانون والعدالة الاجتماعية والديمقراطية أو غيرها من المبادئ والقيم الدينية، وبذلك تكتسي الديباجة أهمية لما يتعلق بتفسير باقي مواد الدستور والحقوق الواردة فيه. خلافاً لمشاريع الدستور التي نشرت سابقاً، جاء مشروع الدستور لعام 2017 دون توطئة واكتفى بذكر "نحن أبناء الشعب الليبي، الليبيين والليبيات، نقر هذا الدستور". كرس مشروع الدستور باباً كاملاً للحقوق والحريات من خلال المواد من 31 إلى 66. وهو ما تقوم به العديد من الدساتير، اذ تقوم بالتنصيص على لائحة حقوق وحريات كمعايير وقواعد ومبادئ قانونية. لا تقتصر المواد المتعلقة بالحقوق والحريات في مشروع الدستور على تلك الموجودة في باب الحقوق والحريات، إذ نجدها موزعة على المواد القانونية في كامل أبوابه ومن ذلك، يحتوي الباب الأول على الحق في بيئة سليمة (المادة 18)، وبعض الحقوق الثقافية ومنها الحق الهوية واللغة (المادة 2)، وحقوق المواطنة والمساواة وعدم التمييز (المادة 7)، وتكافؤ الفرص (المادة 16). وكذلك في الباب الرابع حول السلطة القضائية والذي كرس حقوقاً متعلقة بالحق في المحاكمة العادلة كالحق في القاضي الطبيعي وحظر القضاء الاستثنائي (المادة 123)، والحق في التقاضي على درجتين (المادة 122). بالإضافة لذلك، نجد في بعض الأبواب الأخرى، أحكاماً دستورية تنص على طريقة تفعيل حق ورد في مادة أخرى لمشروع الدستور. ومنها المادة 185 من باب الأحكام الانتقالية والمتعلقة بضمان نسبة تمثيلية للمرأة مقدرة ب 25 بالمائة من مقاعد مجلس النواب والمجالس المحلية مدة دورتين انتخابيتين، وهو ما جاء به في المادة 49 المتعلقة بدعم حقوق المرأة حيث يضع آلية لضمان تفعيل حق المرأة في التمثيل بالانتخابات العامة. أو مثل الحق في المشاركة في الحياة السياسية (المادة 42)، والذي تضمن للمواطنين والمجتمع المدني تقديم مقترحات تشريعية، وهو ما أكدته المادة 72 المتعلقة بمشاريع القوانين ومقترحاتها وأحالت تنظيم هذا الحق للقانون. لا شك بأن مشروع الدستور يمثل تقدماً في تكريس الحقوق والحريات على مستوى القانون الوطني الليبي، إلا أن بعض المواد التي تضمنها الدستور قد تطرح مجموعة إشكاليات. منها على سبيل المثال، الحق في المساواة وعدم التمييز الذي اعترف به مشروع الدستور للمواطنين والمواطنات فقط، دون الأخذ بعين الاعتبار حقوق الأفراد الخاضعين للولاية القانونية الليبية (المادة 7). أو الحق في الجنسية واعتباره حق نسبي وغير مطلق وإمكانية سحب الجنسية من الليبيين بناءاً على اعتبارات المصلحة العامة (المادة 10). يكرس مشروع الدستور في باب الحقوق والحريات مجموعة متنوعة من الحقوق السياسية والمدنية، كالحقوق المتعلقة بالكرامة الإنسانية (المواد 31 و32 و34)، الحق في السلامة (المادة 32)، وحريات الصحافة والإعلام والتعبير والنشر(المواد 37 و38)، الحقوق الانتخابية كالحق في التصويت والترشح (المادة 39)، أو الحقوق المرتبطة بالمشاركة في الحياة السياسية مثل تكوين الأحزاب السياسية والمجتمع المدني والتظاهر والتجمع والشفافية والحق في المعلومة (المواد 40-43 و46)، أو الحقوق المتعلقة بالمحاكمة العادلة والتي جاءت تقدمية وشملت بالتفصيل أغلب عناصر المحاكمة العادلة وشجعت على العقوبات البديلة للعقوبات السالبة للحرية (المواد 62-64). كما يضم باب الحقوق والحريات مجموعة من الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، كالحق في الماء والغذاء (المادة 47)، والحق في الصحة (المادة 48)، والحياة الكريمة بما يشمل ذلك الحق في الضمان الاجتماعي (المادة 50)، والحق في التعليم (المادة 52)، والحق في العمل (المادة 56). من الجدير بالذكر، بأن مشروع الدستور الليبي لا يتطرق فقط لمسألة النفاذ للحق، بل أيضاً لنوعية الخدمات المقدمة لإعمال الحق. فعلى سبيل المثال، تنص المادة 45 من مشروع الدستور على حق جميع الليبيين في رعاية صحية ذات جودة. إذ لا يقتصر تكريس الحق فقط على إعمال النفاذ للخدمات الصحية، بل لخدمات صحية ذات جودة. جميع هذه المواد المتعلقة بالحقوق والحريات سواء تلك الموزعة على أبواب مشروع الدستور أو التي تضمنتها لائحة الحقوق والحريات تطرح مجموعة ملاحظات وتساؤلات أهمها: الملاحظة الأولى تتعلق بما إذا كانت لائحة الحقوق والحريات المذكورة في مشروع الدستور جاءت على سبيل الحصر أم الذكر. لا نجد بالعودة لمشروع الدستور إجابة واضحة عن هذا السؤال. إلا أنه يمكن الاستنتاج بأنها قائمة غير حصرية ومفتوحة وذلك من المواد الدستورية الأخرى، ومنها المادة 66 المتعلقة بالسياسات التشريعية والتنفيذية والتي تنص على أن "جميع السياسات التشريعية تبنى على حماية حقوق الإنسان". ولكن كان من الأجدى والأجدر لو أن مشروع الدستور قد نص صراحة على أن قائمة الحقوق والحريات مفتوحة كما هو الحال في بعض دساتير الدول الأخرى. الملاحظة الثانية تتعلق بقابلية النفاذ والتقاضي للحقوق والحريات، وبصرف النظر عن عدد الحقوق المدرجة في الدستور، لا بد على النصوص الدستورية أن تكون قابلة للنفاذ والتقاضي، بمعنى أن تكون المحاكم قادرة على إنفاذ هذه النصوص. ينظر إلى الحقوق المدنية والسياسية على أنها قابلة للعرض على القضاء، فهي بذلك لا تشكل أي إشكالية عندما يتعلق الأمر بذلك، إلا أن هذا الأمر لا يزال موضع نقاش عندما يتعلق الأمر بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. والحجة التي تقدم بالعادة بأن مثل هذه الحقوق هي في الغالب تعبر عن تطلعات أو غايات سياسية وتعتمد في تحقيقها على الموارد المتوفرة، وأن التقاضي في هذه الحقوق يعني التدخل في خيارات سياسية في ظل موارد شحيحة. وفي هذا الاتجاه، يفتقر مشروع الدستور الليبي لآليات إعمال الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، والتي من الممكن أن تسهل عمل القضاء وتسهل قابلية هذه الحقوق للتقاضي، من ذلك النص على نسبة محددة من الموازنة العامة للدولة لإنفاقها على مجالات كالصحة والتعليم والبحث العلمي، أو غيرها من آليات إعمال الحقوق حتى لا تصبح مجرد طموحات أو حبراً على ورق. الملاحظة الثالثة، تتعلق بما قد تنطوي عليه ممارسة بعض الحقوق والحريات من تناقضات، فالمادة 7 تكرس مساواة المواطنين والمواطنات في القانون وأمامه وتحظر التمييز لأي سبب كان، إلا أن الفصول الأخرى تكرس أن "الشريعة الاسلامية" مصدر للتشريع، بما يطرح، على سبيل المثال، إشكاليات منها ما يتعلق بالمساواة بين المرأة والرجل.
مؤسسات ضمان الحقوق والحريات في مشروع الدستور
لا يمكن الحديث عن حماية دستورية لحقوق الإنسان دون الحديث عن الآليات والمؤسسات التي تضمن فعلياً احترام النص القانوني الدستوري وتسهر على تطبيقه. إذ أن تكريس الحقوق ووضع ضوابط وقيود على تقييدها غير كافي لضمان ممارستها بشكل فعال. فلا بد وجود مؤسسات تحمي الحقوق والحريات ضد تعسف السلطة التنفيذية والمشرع. يوفر مشروع الدستور الليبي الضمانات المؤسساتية الضرورية لذلك ومنها: القضاء العادي، والقضاء الدستوري، والهيئات المستقلة، وخاصة المؤسسة الوطنية لحقوق الإنسان.
القضاء العادي:
ينص الباب الرابع من مشروع الدستور على السلطة القضائية ويعدد من وظائف السلطة القضائية الأساسية هو إقامة العدل وضمان سيادة القانون وحماية الحقوق والحريات. تمثل الرقابة القضائية ضمانة جوهرية مرتبطة بتحديد الحقوق في كل الأنظمة الديمقراطية، حيث يعتبر استقلال القضاء شرط ضروري لنجاعة هذه الرقابة. يقدم مشروع الدستور إطار دستوري متماسك فيما يتعلق باستقلالية القضاء، فالقضاة "مستقلون في أداء وظائفهم، لا يخضعون لغير القانون ويلتزمون مبادئ النزاهة والحياد"، كما نص "التدخل في عمل القضاء جريمة لا تسقط بالتقادم". بالإضافة لذلك، وضع مشروع الدستور مجموعة من الضمانات المتعلقة بتعيين وعزل أعضاء السلطة القضائية، ويذكر بأن المجلس الأعلى للقضاء هو السلطة الوحيدة المخولة باتخاذ قرارات تمس بالقضاة. إلا أن مشروع الدستور يحيل تكوين المجلس الأعلى إلى القانون، وبالرغم من أن المادة 126 تنص على ضرورة احترام استقلاليته عند تكوينه، إلا أن هذه الإحالة تشكل مصدر ضعف كبير وتسمح باستغلال المجلس بسهولة من قبل الأغلبية السياسية في مجلس الشورى مستقبلاً ما قد يفرغ استقلالية المجلس الأعلى للقضاء من محتواها ما يؤثر سلباً على استقلالية القضاء بشكل عام. في نفس الإطار، يوفر الباب الرابع من مشروع الدستور، مجموعة من الضمانات الأخرى المتعلقة بالقضاء مثل حظر المحاكم الاستثنائية والاختصاص الحصري للمحاكم العسكري في الجرائم العسكرية التي يرتكبها عسكريون، الأمر الذي يعزز استقلالية وحياد الدور الرقابي للقضاء العادي على تعسف الدولة فيما يتعلق بممارسة الحقوق والحريات.
القضاء الدستوري:
ينص مشروع الدستور في بابه الخامس على إنشاء محكمة دستورية مستقلة تتكون من 12 عضو، يختار المجلس الأعلى للقضاء 6 أعضاء منهم، ويختار كلاً من رئيس الجمهورية والسلطة التشريعية 3 أعضاء (المادة 136). تختص المحكمة بالرقابة على دستورية القوانين والضوابط لعمل السلطتين التنفيذية والتشريعية، كما تنظر المحكمة الدستورية في دستورية إجراءات التعديلات الدستورية وفي الدعاوى المتعلقة بعدم وفاء السلطة التشريعية بالتزاماتها الدستورية (المادة 139). يلعب القضاء الدستوري دوراً هاماً كضامن متوقع للحقوق والحريات في مشروع الدستور، من خلال الرقابة اللاحقة التي يقوم بها على دستورية القوانين، بالإضافة للدور الذي يلعبه في مراجعة الدستور وتعديله. تنص المادة 19 على أن أي تعديل للدستور لا يجب أن يمس بالمبادئ المتعلقة بالتعددية السياسية والتداول السلمي للسلطة، ولا بالضمانات المتعلقة بالحقوق والحريات إلا بغرض تعزيزها، مما يجعل للمحكمة الدستورية القادمة دوراً أساسيا ً في ضمان ذلك. ج. الهيئات المستقلة: تلعب الهيئات المستقلة اليوم في العديد من الأنظمة الدستورية المعاصرة دوراً أساسياً في تعزيز المسائلة المجتمعية للسلطات العامة في الدولة، بما يشمل ذلك من تعزيز للشفافية والتعددية ومكافحة الفساد وتعزيز واحترام حقوق الإنسان. يضم الباب السابع من مشروع الدستور مجموعة من الهيئات الدستورية المستقلة، كما ينص على استقلاليتها الإدارية والمادية وهو الأمر الضروري لكي تمارس مهامها بشكل فعال. ولعل أهم هذه المؤسسات هو المجلس الوطني لحقوق الإنسان والذي يعمل على تعزيز وحماية حقوق الإنسان في ليبيا. يضع مشروع الدستور المبادئ العامة المتعلقة بالهيئات المستقلة وبالمجلس الوطني لحقوق الإنسان. ويمكن القول، بأن ضمان استقلالية المجلس وتسليحه بولاية واسعة وقوية، وفقاً لمبادئ باريس، يعزز من قدرة المؤسسة على القيام بدورها في حماية وتعزيز حقوق الإنسان على المستوى الوطني.
حدود الحقوق والحريات في مشروع الدستور
القيود على الحقوق والحريات:
بالإضافة للصمت تماماً عن التقييد مثل دستور الولايات المتحدة الصادر سنة 1787، والذي ترك ضبط الحريات للقانون والقضاء، فالدساتير أمام طريقتين عندما يتعلق الأمر بوضع وضبط قيود الحقوق والحريات. الطريقة الأولى هي طريقة التحديد الخاص، بمعنى وضع القيود على كل حق من الحقوق التي يضمنها الدستور بمجموعة من الضوابط الخاصة به. أما الطريقة الثانية، فتقوم على إيراد مادة جامعة ضمن الدستور تضمن الضوابط المنطبقة على جميع الحقوق والحريات. كما يمكن أيضا الجمع بين الخيارين السابقين، ويطلق عليها البعض طريقة التحديد المزدوج للحقوق والحريات . يمكن القول بأن مشروع الدستور الليبي اعتمد طريقة تحديد مزدوج للحقوق والحريات، إذ نصت بعض المواد المتعلقة بالحقوق والحريات على بعض الحدود المتعلقة بها. جاءت المواد القانونية متفاوتة فيما يتعلق بضوابط هذه القيود، فكانت في بعض الأحيان واضحة ودقيقة، وبعضها الآخر غير واضحة وغير دقيقة تماماً. بالإضافة لذلك، أحالت بعض المواد تنظيم هذا الحق أو حدوده للقانون في بعض الأحيان الأخرى. نصت المادة 34 المتعلقة بالكرامة الإنسانية، على "حظر العمل القسري إلا لضرورة، أو تنفيذا ً لعقوبة بموجب حكم قضائي". ولم تحدد مادة مشروع الدستور الضرورات التي يمكن أن تجيز العمل القسري؟ في نفس السياق، ضمنت المادة 37 حرية التعبير والنشر، إلا أنها نسبت هذا الحق بتحديد ما يجب على الدولة "أن تتخذ تدابير لازمة" بخصوصه، وهو حماية الحياة الخاصة وحظر التحريض على الكراهية والعنف والعنصرية وحظر التكفير وفرض الأفكار بالقوة. جاءت بعض المواد بشروط أخرى متعلقة بوضع قيود وحدود على ممارسة الحريات، ومن ذلك، حرية الصحافة والإعلام. إذ أسست المادة 38 لضمان حرية وتعددية واستقلالية وسائل الصحافة والإعلام، وحضرت إيقافها إلا من خلال أمر قضائي، وحلها إلا من خلال حكم قضائي. وهو ما اعتمدته المسودة بالنسبة لبعض المواد الأخرى كالمادة 41 المتعلقة بالمجتمع المدني. في نفس الإطار، وضع مشروع الدستور مادة جامعة لتحديد الحقوق والحريات، وهي المادة 65 والتي تنص على مجموعة الشروط اللازمة لوضع قيود على الحقوق والحريات. تضم المادة 65 مجموعة من الضمانات المتراكبة والمتسلسلة التي ترافق عملية تحديد الحقوق.إذ تذكر المادة بأن أي قيد على ممارسة الحقوق والحريات يجب أن يكون "ضروريا ًوواضحاً ومحدداً"، وهو ما يكرس أن أي مساس بالحقوق يجب أن يبرر بضرورة ما وأن يكون هذا المساس واضحا ًومحددا. إلا أن مادة مشروع الدستور لم تحدد ما هي حالات الضرورة، وتركت ذلك لهوى المشرع في مرحلة لاحقة. في هذا الإطار، يمكن ذكر مثال الدستور التونسي لسنة 2014 والذي يفصل في مادته 49، حالات الضرورة التي يجيز فيها المساس بالحقوق والحريات. تضع المادة 65 شرط التناسب مع المصلحة محل الحماية أيضاً، بمعنى قياس ملائمة التقييد المفروض مع الغرض منه وموازنة ما إذا كان القيد يشكل تهديداً على مصالح صاحب الحق مقارنة بأهمية العوامل المبررة له. بالإضافة لذلك، فأن المادة 65 تضع شرطاً لأي تحديد للحقوق وهو عدم الرجوع عن الضمانات المقررة بالقانون، بمعنى أن النصوص القانونية المقيدة للحقوق والحريات لا يجب أن تقوم بتحديد الحقوق بشكل أكبر مما هو عليه الحال في القوانين الموجودة. كما تضع شرط عدم تعارض الحدود مع أحكام الدستور، الأمر الذي يكرس مبدأ علوية الدستور وأحكامه، إلا أن البعض يبرر قلقه من إضافة هذه الجملة على اعتبار أنها إشارة واضحة إلى شرط أسبق يتمثل في أن الشريعة الإسلامية هي مصدر للتشريع (المادة 6)، ما يمكن أن يتعارض مع المعايير الدولية للحقوق والحريات فيما يتعلق بالمسائل المتعلقة بالميراث على سبيل المثال. في النهاية، لا توضح المادة من يمكن أن يضع قيود على الحقوق والحريات، أو طريقة تنظيمها، هل ذلك من الاختصاص الحصري للقانون، أو أن هناك مجال لإرادة الإدارة للتدخل بذلك أيضاً. في هذا الإطار، تقوم بعض الدساتير بوضع اختصاص حصري في مجال الحقوق والحريات للقانون، بل وتختار أيضا ًأن تكون القوانين المتعلقة بالحقوق والحريات قوانين يتم اعتمادها بأغلبية معززة. 2 . الحالات الاستثنائية والحقوق والحريات في مشروع الدستورتنص أغلب الدساتير على تنظيم حالة الطوارئ لما لها من أهمية على حكم القانون واحترام الحقوق والحريات واستقرار النظام السياسي والفصل بين السلطات. إذ أن التنصيص على إجراءات إعلان حالة الطوارئ أو الحالات الاستثنائية الأخرى في الدستور بشكل واضح ودقيق يعد ضمانة لعدم التعسف في استخدام مثل هذه الإجراءات. وتمكن هذه الاستثناءات الدستورية من تعليق العمل جزئياً أو كلياً بالحقوق والحريات الواردة به. يتطرق مشروع الدستور الليبي لسنة 2017 لهذه الحالات في بابه الثاني عشر المتعلق بالأحكام العامة وذلك في المواد 187 و188 ويذكر حالتين من الحالات الاستثنائية، الأولى هي حالة الطوارئ والثانية هي حالة الأحكام العرفية. وتوضح كلاً من المواد 187 و188 إجراءات وأسباب إعلان كلاً من الحالتين. يعتبر مثل هذا التعليق بمثابة تهديد لممارسة الحقوق والحريات، ولذلك، تضع العديد من الدساتير مجموعة ضمانات لحماية الحقوق والحريات بشكل فعال في حالات الطوارئ وحالات الاستثناء الأخرى، ويشمل ذلك إجراءات إعلان الحالة الاستثنائية، وأسبابها وطريقة ممارستها. فعلى مستوى الإعلان عن حالة الطوارئ، فحسب المعايير الدولية المتعارف عليها لا بد أن يخضع الإعلان إلى مجموعة من الشروط، إذ يجب أن تكون حالة الطوارئ مقيدة بزمن، أي مؤقتة وأن تتم لتحقيق أهداف تتعلق بالمصلحة العامة وأن تكون مراجعة قرار إعلان حالة الطوارئ ممكنة. أما على مستوى الممارسة، فلا بد من تحديد السلطات المصاحبة لحالة الطوارئ، مقيدة قدر الإمكان وأن تكون التدابير المتخذة متناسبة مع الغرض المنشود، وأن تتاح وسائل الانتصاف الفعالة للأشخاص. بالإضافة لذلك، فلا بد التنصيص على مجموعة الحقوق غير القابلة للتقييد ومنها الحق في الحياة وعدم التعرض للتعذيب أو الرق والعبودية... إلخ . يضع مشروع الدستور الليبي مجموعة من الضوابط الإجرائية لإعلان كلاً من حالتي الطوارئ وحالة الأحكام العرفية. يتم الإعلان عن حالة الطوارئ من رئيس الجمهورية في حالات محددة وهي تعرض البلاد لنازلة أو حصار أو خطر يهدد سلامتها وذلك بالتشاور مع رئيس الوزراء ورئيس مجلس الشورى، ويقرها أو يلغيها ذلك الأخير بعد ثلاث أيام من إعلانها في حالة انعقاده أو 7 أيام في حالة عدم انعقاده. تحدد المادة 187 من مشروع الدستور 60 يوم كفترة زمنية لحالة الطوارئ بناءاً على موافقة أغلبية أعضاء مجلس الشورى، قابلة للتجديد ل 120 يوماً آخر بناءاً على أغلبية الثلثين من المجلس. أما بالنسبة للحالة الثانية وهي حالة الأحكام العرفية، فيمكن لرئيس الجمهورية إعلانها في حالتي الحرب والتهديد الجسيم لأمن البلاد، بناءاً على طلب يقدمه لمجلس الشورى، على أن يبت المجلس في طلبه بالأغلبية المطلقة خلال ثلاث أيام. تبدو حالة الأحكام العرفية أكثر محدودية من حيث النطاق الجغرافي، إذ تنص المادة 188 على عدم إمكانية فرضها على كامل البلاد، إلا أن المادة لا تعالج مسألة المدة الزمنية لها، وتحيل ذلك إلى القانون الذي ينظم الأحكام الخاص بها. يكتفي نص المادة بالقول بأن رفع هذه الحالة هو من اختصاص مجلس الشورى بناءاً على طلب رئيس الجمهورية. بالإضافة لذلك، فإن رئيس الجمهورية يقدم تقريراً شهرياً بشأنها. تضيف المادة 189 مجموعة ضوابط وقيود لكل من حالة الطوارئ والأحكام العرفية وتحيل للقانون بعض المسائل التنظيمية والإجرائية لهما، كأسباب إعلان الحالة، والمدة الزمنية ونطاق كل من الحالتين والحقوق التي يمكن تقييدها. كان من الأولى والأفضل أن يقوم مشروع الدستور بذلك على ما لهما من أهمية للحماية الفعلية لحقوق الإنسان، وما يحمله ذلك من ضمانات عدم التعسف وعدم ترك ذلك لهوى المشرع. يضع نص المشروع أيضا ًفي الفقرتين الثانية والرابعة من المادة 189، مجموعة من القيود المتعلقة بشكل مباشر بممارسة الحقوق والحريات، إذ تشترط عدم وضع قيود على الحقوق والحريات، أثناء الطوارئ والأحكام العرفية، إلى بالقدر الضروري للمحافظة على الأمن العام والسلامة العامة للبلاد، وذلك مع مراعاة المواد 31 و32 و34، إلا أن ذلك لا يوضح بشكل صريح ما إذا كانت تلك الحقوق هي جزء من قائمة الحقوق التي لا يمكن وضع قيود عليها. تضيف الفقرة الرابعة من المادة نفسها، بشكل واضح وصريح، بأن الحق في القاضي الطبيعي وحظر محاكمة المدنيين أمام المحاكم العسكرية أحد الحقوق التي لا يمكن المساس بها. بالإضافة لذلك، تضيف المادة 189 في باقي فقراتها مجموعة من القيود على ممارسة كلاً من حالة الطوارئ وحالة الأحكام العرفية، وذلك مثل خضوع جميع القرارات والتصرفات التي يتم اتخاذها خلال الحالتين لرقابة القضاء واحترام مبدأ المشروعية وعدم إمكانية تعديل الدستور أو تعطيل أحكامه أو حل المجالس المنتخبة. يمكن القول أنه إجمالاً، يوفر الإطار القانوني المقترح في مشروع الدستور والمنظم لكل من حالتي الطوارئ والأحكام العرفية جملة من الضمانات الإجرائية والعملية المتعلقة بأخذ قرار إعلان الحالتين وضبط وتقييد الممارسات والسلطات خلال الحالتين. إلا أن إحالة مشروع الدستور تنظيم المسائل الإجرائية والتدابير التي يمكن اتخاذها مثل المدة الزمنية لها والحقوق التي يمكن تقييدها، قد يفرغ هذه الضمانات من محتواها.
الخاتمة :
اعتمدت الهيئة التأسيسية لصياغة الدستور الليبية بعد ثلاث أعوام على بدء عملها، مشروع الدستور الليبي لسنة 2017، وقد جاء مشروع الدستور بالعديد من ضمانات حقوق الإنسان بما يشمل ذلك من تكريسه لمجموعة واسعة من حقوق مدنية وسياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية، بل ورياضية أيضاً، والتي جاءت موزعة على أغلب أبوابه. جاء مشروع الدستور بمجموعة من الإجراءات التي تشكل حصانة لما كرسه مشروع الدستور من حقوق وحريات من ذلك إجراءات وضع حدود وقيود على الحقوق والحريات وما أتت به المادة 65 من المشروع. بالرغم من هذا كله، إلا أن مشروع الدستور بصيغته الحالية يبقى ناقصاً، إذ جاء ببعض المواد التي توفر مجالاً واسعة لسلطة المشرع والسلطات السياسية في مرحلة لاحقة والتي قد يفرغ الضمانات التي جاء بها مشروع الدستور من محتواها، الأمر الذي يحتاج معالجة.