الأطر التشريعية والممارسات المعرقلة لحرية التعبير في ليبيا
الأستاذ ضياء شقورة
باحث في القــــانون العـــــام، مهتــــم في أبحاثه بمســـــــائل تخص الحقــــــوق المدنيــــــة والسياسية. حاليا،
يقوم شقورة بإعداد رسالة دكتوراه حول الدستورية في دول ما بعد 'الربيع العربي'
__
“لا ينبغي للديمقراطية أن تخشى النقاش، حتى حول الأفكار الأكثر إثارة للصدمة أو المناهضة للديمقراطية. ومن خلال المناقشة المفتوحة ينبغي التصدي لهذه الأفكار وإظهار سيادة القيم الديمقراطية. […] إن الإقناع من خلال النقاش العام المفتوح، بدلاً من الحظر أو القمع، هو الوسيلة الأكثر ديمقراطية للحفاظ على القيم الأساسية. وفي أي ديمقراطية، تمكن حرية التعبير والرأي والإعلام الجمهور والأفراد من مساءلة السلطات وتحقق مبادئ الشفافية والنقاش العام الواسع والمفتوح”.
هكذا عبرت لجنة البندقية عن أهمية حرية التعبير والرأي والإعلام للديمقراطيات، حتى وإن كان الموضوع مناهضاً أساساً للديمقراطية. فهي تشكل "حجر الزاوية لكل مجتمع تسوده الحرية والديمقراطية"، لما لها من أهمية وارتباط بتعزيز مبادئ الشفافية والمساءلة واعتبارها القاعدة الأساسية التي يُستند إليها للتمتع الكامل بطائفة كبيرة من حقوق الإنسان كحرية التجمع، وتكوين الجمعيات والحقوق الانتخابية.[2]
قد يختلف الأمر قليلاً في ليبيا، فالسياق هنا مختلف. عانت ليبيا على مدار 42 عاماً من حكم معمر القذافي تغيباً تاماً للديمقراطية، الأمر الذي انعكس بدوره على حرية الرأي والتعبير، فابتعلت الدولة كل شيء و "رسمت حدوداً لا يمكن تجاوزها".[3] وبالرغم من وجود ودسترة بعض الحقوق ذات الصلة في دستور 1951،[4] إلا أن الاعلان الدستوري لسنة 1969، جاء مغيباً لها واكتفى بمادة واحدة وهي "حرية الرأي مكفولة في حدود مصلحة الشعب ومبادئ الثورة"[5]، وهو ما يعطي صورة واضحة ومقتضبة على السياسة المتبعة وقتها وعلى حرية الرأي والتعبير على مدار تلك السنوات.
جاءت الثورة الليبية مطلع عام 2011 بآمال كبيرة للتغير السياسي للبلاد نظاما ًومؤسساتً، ولتكون باباً لتغيير واقع الحقوق في البلاد الليبية، وأداة لإزالة القيود على الحريات بشكل عام وحرية التعبير بشكل خاص. وقد جاء الإعلان الدستوري لعام 2011 متناغماً مع ذلك، إذ ذكرت ديباجته أنه إعلان يستجيب لرغبة الشعب الليبي و " تطلعـاته إلى تحقيق الديمقـراطية وإرسـاء مبادئ التَّعـددية السياسية ودولة المُؤسسات".[6] وأكد هذا الإعلان على ضمان الدولة، من بين حريات أخرى، منها "حرية الرأي وحرية التعبير الفردي والجماعي ... بما لا يتعارض مع القانون".[7]
يمكن تعريف حرية التعبير على أنها حرية البحث عن المعلومات والأفكار بكافة أنواعها وتلقيها ونقلها إلى الآخرين، بما يشمل التعبير عن الأفكار والمواقف والتصورات للغير بكل الوسائل الممكنة. ولا تشمل هذه الحرية فقط على المعلومات أو الأفكار التي يتم تلقيها بشكل إيجابي أو التي تعتبر غير مسيئة، ولكن أيضًا على تلك التي تسبب صدمة أو إزعاج للدولة.[8] طبعا، حرية التعبير ليست حرية مطلقة، إذ تستوجب ممارستها " واجبات ومسؤوليات خاصة".[9] ولذلك يمكن أن تخضع للقيود شرط أن تكون ضرورية ومحددة بنص القانون.[10]
ويطرح موضوع حرية التعبير اليوم عديد من التساؤلات في ليبيا، خاصة وأنها، وبالرغم من الإعلان الدستوري الصادرة قبل أكثر من 13 سنة، لازالت تواجه إرثاً مكبلاً بالقيود وحاضراً قلق ومستقبلاً مجهول.[11] فما هي تحديات إعمال واحترام وحماية حرية التعبير؟
على الرغم من التطلعات التي أتت بها الثورة، والضمانات التي حاول النص الدستوري الجديد القيام بها، فقد عقد الوضع الاستثنائي في ليبيا مساعي الانتقال الديمقراطي، إذ تحولت الاحتجاجات إلى أعمال عنف ونزاع مسلح وانقسام سياسي، أفشل مساعي التغيير، الأمر الذي انعكس أيضاً على حرية التعبير. سنحاول في هذا المقال الحديث في مرحلة أولى عن الإطار القانوني لحرية التعبير (أولاً)، وفي مرحلة ثانية عن الضمانات القضائية لحرية التعبير (ثانياً).
أولاً: إطار قانوني مُقيد لحرية التعبير
بالتأكيد، كما أشرنا له سابقاً، حرية التعبير ليست مطلقة، إذ يمكن للدول، لضرورات معينة، تقييد هذه الحرية بشروط. ولكن على الرغم من أن ليبيا طرف في العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية منذ عام 1970، والذي تُلزم الدولة الطرف، وجميع أجهزتها التنفيذية والتشريعية والقضائية، بضرورة احترام وحماية وإعمال حرية الرأي والتعبير،[12] إلا أن العديد من القوانين المقيدة لحرية التعبير بطريقة تعسفية، والتي سنت قبل الثورة لا تزال سارية حتى يومنا هذا، ما يشكل إرثاً قانونياً مكبل لحرية التعبير (أ).
بالإضافة لذلك، فهناك تشريعات سُنت في فترة ما بعد الثورة، وهي أيضاً تشريعات مقيدة لحرية الصحافة والتي أفرغت الضمانة الدستورية الواردة في الإعلان الدستوري لعام 2011 من محتوها وهو ما يمكن التعبير عنه بالحاضر القانوني المقلق (ب).
أ. إرث قانوني مكبل لحرية التعبير منذ أكثر من خمسين عاماً
جاءت المادة 14 من الإعلان الدستوري واضحة فيما يتعلق بحرية الرأي والتعبير، فهو حق مضمون، بما لا يتعارض مع القانون. إلا أن أغلب القوانين التي تتسم في أغلبها بالتضيق على حرية التعبير يعود تاريخ اعتمادها لأكثر من خمسين عاماً ولا زالت سارية المفعول واستخدمت من السلطات ذات الصلة خلال العشرية الأخيرة مثل قانون المطبوعات رقم 76 لسنة 1972،[13] الذي وضع العديد من العراقيل أمام ممارسة حرية التعبير والصحافة والنشر. وقد اعتبرته اللجنة المعنية بحقوق الإنسان في أكثر من مناسبة مقيداً لحرية التعبير ويفرض قيوداً صارمة على حرية الرأي والتعبير، وشجعت اللجنة أن تقوم بمراجعته لكي يتوافق بشكل عام مع مواد العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية[14].
ويعود ذلك بالأساس لمجموعة من الإشكاليات، لعل أهمها فكرة الترخيص لعمل وسائل الإعلام بما يسمح بسلطة تقديرية غير مقيدة لمنح ورفض هذه التراخيص.[15]
بالرغم من أن القانون نفسه ينص على أنه " لا يجوز فرض الرقابة على الصحف قبل نشرها"،[16] إلا أن القانون جاء بمواد مخالفة لهذا المبدأ. إذ فرضت المادة 28 عرض " كل مطبوعة أجنبية على إدارة المطبوعات وذلك قبل توزيعها".[17] وتضيف المادة 5 من القانون أن صاحب المطبوعة الدورية أو شبه الدورية يجب أن يكون "مؤمنا بالثورة العربية وملتزما بأهدافها وأهداف ومبادئ العمل في الاتحاد الاشتراكي العربي"،[18] مما يمكن أن نفهم منه القيود التعسفية التي يمكن فرضها على حرية التعبير.
من جانب آخر، فاستمرار تطبيق قانون العقوبات وخاصة تطبيق المواد 178 و195 و205 و208 و245و 438 و439 منه،[19] يمثل أحد التحديات والعراقيل الرئيسة أمام احترام وحماية حرية التعبير. وتشمل هذه الجرائم على سبيل المثال، إهانة الموظفين العمومية أو الأمة الليبية أو العلم الليبي،[20] أو السلطات الدستورية أو الشعبية.[21] كما يجرم القانون أي فعل غايته إثارة حرب أهلية في البلاد أو تفتيت الوحدة الوطنية.[22] وفي نفس الإطار، تجرم المادة 207 من قانون العقوبات الترويج بأي طريقة من الطرق نظريات أو مبادئ ترمي لتغيير مبادئ الدستور الأساسية أو النظم الأساسية للهيئة الاجتماعية.[23]
تطرح هذه المواد إشكاليات قانونية عديدة وتمثل تحدياً لاحترام الإعلان الدستوري لعام 2011 ولإعمال التزامات ليبيا، خاصة تلك المتعلقة بالعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، ولعل أهمها استخدام عبارات مطاطة مصطلحات فضفاضة غير منضبطة، مثل (الإهانة أو خدش الاعتبار)، بما يسّهل التوسع في تفسيرها على نحو يقضي تمامًا على حرية التعبير.
علاوة على ذلك، تولي اللجنة المعنية بحقوق الإنسان في تعليقها عدد 34 حول المادة 19 أهمية كبيرة لقيود حرية التعبير والصحافة، وترى أن اعتبار أشكال التعبير مهينة للشخصية العامة لا تكفي لتبرير فرض عقوبات. فتجريم بعض الممارسات مثل انتقاد الجهات الرسمية وعدم احترام العلم والرموز لا ينبغي أن تشكل قيوداً على حرية التعبير والصحافة. وينبغي ألا يُحظر انتقاد المؤسسات الرسمية.[24]
ولا تزال هذه القواعد القانونية، والتي يتجاوز عمرها الخمسين عام، تشكل إرثاً ثقيلاً ومكبلاً لحرية التعبير في فترة انتقال ديمقراطي مُعقدة. إذ تستخدمها السلطات الليبية في ملاحقة وتضيق الخناق على حرية التعبير. من ذلك على سبيل المثال الحكم الصادر عن إحدى محاكم الجنايات في ليبيا على رئيس تحرير صحيفة الأمة، عمارة الخطابي، بالسجن لمدة 5 سنوات لمزاعم بتشهيره بمسؤولين عمومين على خلفية نشر "القائمة السوداء في القضاء"، لأسماء 87 من القضاة وأفراد النيابة واتهامهم بقبول الرشاوى وغير ذلك من أوجه الكسب غير المشروع، تم بناءه، من بين قوانين أخرى، على المادة 195 من قانون العقوبات.[25]
ب. حاضر قانوني مُقلق: تشريعات ما بعد ثورة فبراير
لم تقتصر التقييدات التعسفية المفروضة على حرية التعبير خلال فترة الانتقال الديمقراطي العسيرة على تلك التي جاءت بها التشريعات المعتمدة في فترة ما قبل الثورة، بل جاءت تشريعات ما بعد ثورة فبراير بالعديد من النصوص القانونية التي بشكل أو بآخر تضع قيوداً على الممارسة المشروعة على حرية التعبير. فمن أكثر من 62 تشريعاً أصدرهم مجلس النواب ما بعد الثورة، أصدر قانونين إثنين يطرحان العديد من الإشكاليات لحماية واحترام وإعمال حقوق الإنسان.
قانون عدد 3 لسنة 2014 لمكافحة الإرهاب
القانون الأول جاء لمعالجة ومكافحة الإرهاب، وهو القانون عدد 3 لسنة 2014 لمكافحة الإرهاب. وتطرح قوانين الإرهاب بشكل عام إشكالية أساسية، لغياب تعريف دولي قانوني واضح للإرهاب، ما ينعكس على التعريفات الوطنية التي غالباً ما تكون غامضة وتنطوي على احتمال ارتكاب انتهاكات غير مقصودة لحقوق الإنسان أو لأن تستخدم في بعض الأحيان لاستهداف فئة معينة.
ولا يختلف قانون الإرهاب الليبي كثيراً عن ذلك، إذ لا يمكن وصف التعريف الذي جاء به للجريمة الإرهابية إلا بالغموض والضبابية، فهو يعرف العمل الإرهابي على أنه "الإخلال الجسيم بالنظام العام، أو تعريض سلامة المجتمع، أو مصالحه، أو أمنه للخطر متى كان من شأن هذا إيذاء الأشخاص أو إلقاء الرعب بينهم"،[26] ما يمكنه الانسحاب على العديد من الأفعال التي تعتبر ممارسة لحقوق مشروعة، ومنها حرية التعبير.[27]
بالإضافة لذلك، يجرم القانون " كل من قام بالدعاية أو الترويج أو التضليل للقيام بالعمل الإرهابي"،[28] وبأي وسيلة كانت وتشدد العقوبة إذا كان ذلك داخل دور العبادة أو بين القوات المسلحة. يطرح استخدام هذه المصطلحات في قوانين الإرهاب بشكل عام إشكالية أساسية في تجريم فعل قد لا يشكل فعلاً عنيفاً يهدف لإثارة وبث الرعب بين المواطنين، أو متعلق بالتحريض على القيام بفعل إرهابي، ما يطرح خطر واضح لقيود غير مبررة للأفراد والجماعات في ممارسة حرية التعبير بشكل مشروع.[29]
قانون 5 لسنة 2022 بشأن مكافحة الجرائم الإلكترونية
أما القانون الثاني، فهو قانون 5 لسنة 2022 المتعلق بمكافحة الجرائم الإلكترونية،[30] والذي جاء أيضاً بمصطلحات فضفاضة وغير محددة. إذ ينص القانون على مشروعية استخدام وسائل التقنية الحديثة طالما ذلك لم يكن مخالفاً "للنظام العام أو الآدام العامة"،[31] كما يضع القانون عقوبات مالية وسالبة للحرية على بث الإشاعات التي تهدد "الأمن والسلامة العامة".[32]
بالإضافة لذلك، ترك المشرع تفسير هذه المصطلحات لجهات إنفاذ القانون ومنها الهيئة الوطنية لأمن وسلامة المعلومات، المنشأة بموجب قرار مجلس الوزراء رقم 28 لسنة 2013. بل وأكثر من ذلك، فأعطاها صلاحيات واسعة لمراقبة ما يتم نشره عبر شبكة المعلومات الدولية ومنحها سلطة تقديرية واسعة في حجب كل ما يمكن أن يزعزع أمن المجتمع واستقراره.[33]
ولا يستجيب استخدام هذه المصطلحات بشكل عام، سواء كان في القوانين الصادرة قبل الثورة أو ما بعدها، لمتطلبات الدقة الكافية التي يجب أن تصاغ بها القاعدة القانونية، ما يعطيها نطاقاً واسع يمكن أن يشمل الممارسة المشروعة لحرية الرأي والتعبير. إذ يجب أن تصاغ القاعدة القانونية بدقة كافيـة ويجب إتاحتها لعامة الجمهور. ولا يجوز أن يمنح القانون الأشخاص المسؤولين عن تنفيذه سلطة تقديرية مطلقة في تقييد حرية التعبير.[34]
ثانياً: دور متفاوت للقضاء في حماية حرية التعبير
لا يمكن الحديث عن حماية حرية التعبير بالحديث فقط عن الإطار القانوني الضامن لهذه الحرية، بل يجب أيضاً التطرق لدور القضاء والضمانات القضائية لحمايتها. لعبت الدائرة الدستورية في هذا الإطار دورها بشكل نسبي (أ)، لكن يبدو أن الدائرة الدستورية والرقابة الدستورية اليوم في مهب الصراع السياسي (ب).
أ. دور نسبي للقضاء الليبي في حماية الحقوق والحريات
تستوجب سيادة القانون التزام كافة أجهزة الدولة بالقوانين التي تصدرها السلطة المختصة، كأساس لمشروعية أعمال هذه السلطة، وهذا لا يمكن القيام به دون رقابة تمارسها السلطة القضائية والمحاكم، على اختلاف أنواعها ودرجاتها، على مدى موائمة التشريعات مع الدستور والاتفاقيات من جهة ومدى اتفاق تصرفات السلطات مع التشريع نفسه وخاصة في مادة حقوق الإنسان.[35] وتلعب المحاكم الوطنية دوراً أساسياً ومهماً في حماية حقوق الإنسان، من خلال تطبيق ضمانات حقوق الإنسان المنصوص عليها في القوانين الدولية أو المحلية.[36]
لعب القضاء هذا الدور، خاصة من خلال الدائرة الدستورية للمحكمة العليا، والتي يخول لها القانون رقم 6 لسنة 1982 بشأن إعادة تنظيم المحكمة العليا في مادته 23 على اختصاص المحكمة العليا في دوائرها المجتمعة في الطعون في التشريعات المخالفة للدستور ولأي مسألة قانونية جوهرية تتعلق بالدستور أو بتفسيره والمثارة في قضية منظورة أمام أي محكمة.[37] ويمكن ذكر مناسبتين لقضاء الدائرة الدستورية، والتي مارست فيها دورها، كحامي لحقوق الإنسان وحرية التعبير على وجه خاص.
المناسبة الأولى متعلقة بمكانة الاتفاقيات الدولية التي صادقت عليها ليبيا في النظام القانوني الوطني، إذ لم ينص الإعلان الدستوري على ذلك. هذا فتح المجال أمام المحكمة العليا لكي تجتهد بإرساء مبدأ مهم أكدت فيه على أن الاتفاقيات الدولية في ليبيا تكون لها مرتبة أعلى من مرتبة القوانين الوطنية بعد التصديق عليها، وهو اتجاه يتوافق مع الرأي السائد في القانون الدولي الذي يرى أن هذا الأخير له مرتبه تعلو مرتبة القوانين الوطنية.
وذكرت المحكمة العليا (الدائرة الدستورية)، "فإنه من المقرر أن الاتفاقيات الدولية التي ترتبط بها الدولة الليبية تكون نافذة مباشرة بمجرد إتمام إجراءات المصادقة عليها من السلطة التشريعية في الدولة، وتكون لها أسبقية التطبيق على التشريعات الداخلية؛ بحيث إذا حدث تعارض بين أحكامها وأحكام التشريعات الداخلية فإن أحكام الاتفاقية هي الأولي بالتطبيق؛ وترتيبا على ذلك فإن للعمال في ليبيا الحق في الاستفادة مما قد تكون قررته تلك الاتفاقيات من حقوق بمجرد مصادقة الدولة الليبية عليها دون حاجة إلى تعديل أية تشريعات داخلية قد تكون متعارضة معها".[38] حتى وإن لم يكن هذا الطعن الدستوري متعلقاً بشكل أساسي بحرية التعبير، إلا أنه يفتح الباب أمام القضاء لاستخدام القواعد القانونية الدولية الضامنة لحرية التعبير.
أما المناسبة الثانية، فهي متعلقة بشكل أساسي بحرية التعبير، وباستخدام المصطلحات الفضفاضة، إذ رأت المحكمة العليا (الدائرة الدستورية) قد قضت في الطعن رقم 5 الصادر بتاريخ 14 يونيو 2012 بعدم دستورية القانون رقم 37 لسنة 2012 وهو القانون الذي يستخدم عبارات فضفاضة لتجريم "تمجيد الطاغية". وقد أكدت المحكمة على عدة مبادئ دستورية، أهمها مبدأ التدرج التشريعي وشرعية التجريم وحرية الرأي والتعبير، وأن مخالفة أحكام الدستور لها عدة وجوه وهي أن يعارض حكمه أو يقيد مطلقه أو يخصص عامه. وهو ما يمكن وصفه بالنسبة لمختلف المواد الإشكالية سابقة الذكر في الجزء الأول من هذا المقال سواء تلك المنصوص عليها في قانون العقوبات، أو في القوانين الصادرة بعد الثورة كقانون مكافحة الإرهاب وقانون الجرائم الإلكترونية.
ب. الانقسام السياسي يطال القضاء
على الرغم من أهمية القرارات التي أخذها، وأهمية دور القضاء كحامي للحقوق والحريات بشكل عام، إلا أنه لم يسلم من الصراع والانقسام السياسي التي تعيشيه ليبيا منذ 2014، ما أثر على دوره بشكل كبير. إذ طال الصراع السياسي شكل الدولة ووحدتها وانعكس ذلك على انقسام السلطة التشريعية بين شرق وغرب، وما تبع ذلك من ازدواجية المؤسسات والأجهزة الإدارية والمؤسسة العسكرية والأمنية وغيرها،[39] إلا أن القضاء ظل بعيدا عن الصراع وعن الانقسام، فلم نشهد تشكل مجلسا أعلى للقضاء موازي أو محكمة عليا غير المحكمة التي مقرها العاصمة طرابلس، إذ لم تُقدم أطراف النزاع على المساس باستقلال القضاء وهيبته.
وقد نأى القضاء بنفسه عن الانقسام، حتى أن الدائرة الدستورية، حين وجدت نفسها في وسط هذا الانقسام، جمدت نفسها ورفضت البث في الطعون خلال الأعوام 2016-2022. جاء هذا التعطيل ضمن تداعيات حكم الدائرة الدستورية بعدم دستورية جلسة مجلس النواب لبنائها على التعديل الدستوري الذي قضي بعدم دستوريته.[40] هذا الأمر، رفضه ولم يعترف به مجلس النواب واعتبره صادراً بقوة السلاح.[41]
ويمكن القول بأن غياب الدائرة الدستورية، غيَب الرقابة الدستورية على أعمال السلطة التشريعية، كالقوانين المتعلقة بالحريات. إذ يكمن المعنى الأساسي للعدالة الدستورية في ضمان "العناصر الهيكلية الأساسية" للدولة الحديثة، أي: شكلها، وتوزيع السلطات، والأولوية المعيارية للدستور، والحريات الممنوحة للمواطنين والأفراد، التمثيل الديمقراطي وهو ما يستوجب وجودها في أي فترة انتقال ديمقراطي.[42]
ولكن يبدو هذا النأي بالنفس عن الصراع والانقسام السياسي لم يدم كثيراً، إذ قررت المحكمة العليا في ليبيا إعادة تفعيل الدائرة الدستورية المجمدة منذ عام 2016،[43] في خطوة اعتبرها البعض محمودة وأكد على ضرورة وجود الرقابة الدستورية، واعتبرها البعض الآخر خطيرة وتكرس الانقسام وتضع القضاء في مهب الصراع.
وتكمن أساس المشكلة أن هذا القرار يأتي بعد أيام من تصويت البرلمان بالإجماع على قانون ينص على إحداث محكمة دستورية عليا في مدينة بنغازي في كافة الطعون المرفوعة، وعلى إلغاء المحكمة العليا بالعاصمة طرابلس وتغيير اسمها إلى محكمة النقض، وهو القانون الذي اعتبرته الدائرة الدستورية قانوناً غير دستوري.[44]
وقد سلب هذا القانون الجديد الاختصاص من الدائرة الدستورية وقد امتنعت المحكمة العليا عن تطبيقه. ويخلق هذا القانون إشكال حقيقي في اللجوء إلى القضاء الدستوري في ليبيا، إذ يقلص مجال القضاء الدستوري إلى الدفع فقط للمتقاضين، ولا يُمكن في الطعن مباشرة في قانون بعدم الدستورية إلا من قبل رئيس مجلس النواب، أو عشرة نواب على الأقل، أو رئيس الحكومة، أو عشرة وزراء، ما يجعل من القضاء الدستوري شكلي ومحدود.[45]
[1] European commission for democracy through law (Venice commission), Compilation of Venice commission opinions and reports concerning freedom of expression and media, 2016, p6. Available here.
[2] اللجنة المعنية بحقوق الإنسان، التعليق العام رقم 34، CCPR/C/GC/34، فقرات 2-4.
[3] أسامة سليم، حرية التعبير في ليبيا: أصبح الصبح، روزا لكسمبورغ ستفنق، 2023. متاح هنا.
[4] أول دستور ليبي والذي دخل حيز النفاذ قبيل الإعلان عن الاستقلال. نص هذا الدستور على أن ليبيا ملكية دستورية وبالملك إدريس الأول ملكاً عليها. لم يدم هذا الدستور أكثر من 12 عاماً، اذ تم إلغاؤه من خلال الإعلان الدستوري لسنة 1969.
[5] المادة 13، الإعلان الدستوري لسنة 1969 الصادر عن مجلس قيادة الثورة.
[6] ديباجة الإعلان الدستوري الليبي لعام 2011 وتعديلاته.
[7] المادة 14، الإعلان الدستوري الليبي لعام 2011 وتعديلاته.
[8] Moeckli, D., Shah, S., & Sivakumaran, S. (Eds.). International human rights law (3rd ed.). Oxford University Press, 2017, p. 225.
[9] المادة 19(3)، العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية.
[10] للمزيد حول القيود الممكنة حول حرية التعبير، يمكن الرجوع لـ 2 اللجنة المعنية بحقوق الإنسان، التعليق العام رقم 34، الفقرات 21-49.
[11] مروان الطشاني، حرية التعبير والفكر والإبداع في ليبيا، إرث مكبل بالقيود وحاضر قلق ومستقبل مجهول، المفكرة القانونية، 2017. متاح هنا.
[12] لجنة حقوق الإنسان، التعليق العام عدد 34، مرجع سابق، الفقرات الـ 7 و8.
[13] يراجع مقال مرصد جمعية عدالة للجميع في 18 يوليه 2024: ليبيا: أي معنى لحرية الصحافة و التعبير في ظل القانون رقم76 لسنة 1972؟. متاح هنا.
[14] اللجنة المعنية بحقوق الإنسان، CCPR/C/LBY/CO/4، 15 نوفمبر 2007.
[15] المعايير الدولية: تنظيم الإعلام المطبوع، المادة 19. متاح هنا.
[16] المادة 2، القانون رقم 76 لسنة 1972 بشأن المطبوعات.
[17] المادة 28، نفس القانون.
[18] المادة 5، نفس القانون.
[19] يراجع على سبيل المثال مقال مرصد جمعية عدالة للجميع بتاريخ 16 أبريل 2024: المادة 178 من قانون العقوبات الليبي: الترسانة القانونية القمعية لعهد القذافي مازالت مستمرة. متاح هنا.
[20] المادة 205 من قانون العقوبات.
[21] المادة 195 من قانون العقوبات.
[22] المادة 203 من قانون العقوبات.
[23] المادة 207 من قانون العقوبات.
[24] لجنة حقوق الإنسان، التعليق العام عدد 34، مرجع سابق، فقرة 37.
[25] مقال هيومن رايتس واتش، ليبيا ـ الحكم القاسي على رئيس التحرير ضربة لحرية التعبير، متاح هنا.
[26] المادة 2، قانون رقم 3 لسنة 2014 بشأن مكافحة الإرهاب.
[27] بالرغم من عدم وجود تعريف قانوني دولي للإرهاب، إلا هناك معايير يمكن الاستناد عليها ومنها ما ذكره المقرر الخاص المعني بحماية حقوق الإنسان في سياق مكافحة الإرهاب. فأي تعريف للجريمة الإرهابية يجب أن يستوفي العناصر التالية: (أ) ترتكب ضد أفراد من عامة السكان، أو شرائح منهم، بنية التسبب في الوفاة أو الإصابة الجسدية الخطيرة، أو أخذ الرهائن؛ (ب) الغرض منها إثارة حالة من الرعب، أو تخويف السكان، أو إرغام حكومة، أو منظمة دولية المنظمة للقيام بأي عمل أو الامتناع عن القيام به؛ و (ج) تتوافق مع جميع أركان الجريمة الخطيرة على النحو المحدد في القانون. يراجع هنا: تقرير المقرر الخاص المعني بتعزيز وحماية حقوق الإنـسان والحريـات الأساسية في سياق مكافحة الإرهاب، السيد مارتين شاينين A/HRC/16/51, para.26-28
[28] المادة 15، قانون رقم 3 لسنة 2014 بشأن مكافحة الإرهاب.
[29] Shaqqura (D), les libertés à l’épreuve de lutte contre le terrorisme, éditions universitaires européenne, 2020, pp. 33-34.
[30] حول قانون الجرائم الالكترونية يراجع مقال مرصد عدالة للجميع 30 اغسطس 2023: ممارسة الحقوق الدستورية في ظل قانون مكافحة الجرائم الالكترونية. متاح هنا.
[31] المادة 4، قانون رقم 5 لسنة 2022 بشأن مكافحة الجرائم الإلكترونية.
[32] المادة 37، نفس القانون.
[33] المواد 7 و8 من القانون عدد 5 لسنة 2022 بشأن مكافحة الجرائم الإلكترونية.
[34] لجنة حقوق الإنسان، التعليق العام عدد 34، مرجع سابق، فقرة 25.
[35] أحمد الأشقر، الاجتهادات القضائية العربية في تطبيق الاتفاقيات الدولية لحقوق الإنسان، معهد راؤول ولنبرغ لحقوق الإنسان، 2016، ص 14.
[36] Byrnes (A), Renshaw (C), within the state, in Moeckli (D), Shah(S), & Sivakumaran(S) (Eds.). International human rights law (3rd ed.). Oxford University Press, 2017, p. 469.
[37] المادة 23 من قانون رقم 6 لسنة 1982 والمعدل بقانون رقم 17 لسنة 1994 م بتعديل القانون رقم 6 لسنة 1982 بشأن بإعادة تنظيم المحكمة العليا.
[38] الطعن الدستوري رقم 01 /57ق جلسة 23 ديسمبر 2013.
[39] مروان الطشاني، هل يصمد القضاء الليبي في وجه المحاصصة وتقاسم السلطة ؟، المفكرة القانونية، 2021. متاح هنا.
[40] قرار رقم (16) لسنة 2014 بشأن عدم دستورية جلسة مجلس النواب المنعقدة في طبرق بتاريخ 4 اغسطس 2014 وما بعد. متاح هنا.
[41] ليبيا: خلافات بشأن تفعيل الدائرة الدستورية بعد 7 سنوات من التعطيل، العربي الجديد، 2022. متاح هنا.
[42] للمزيد حول كلفة غياب المحكمة الدستورية في تجارب مقارنة، يمكن الرجوع لـ مرصد رقابة، غياب المحكمة الدستورية: هشاشة المنظومة القانونية والسياسية، 2024. متاح هنا.
[43] قرار رقم 12 لسنة 2022 بشأن استمرار الدائرة الدستورية في ممارسة اختصاصها.
[44] الطعن الدستوري 5- 70 ق بشأن القانون المتعلق بإنشاء محكمة دستورية. متاح هنا.
[45] سارة بن سدرين، الحق في النفاذ للعدالة في ليبيا، مجلة موازين، عدد 3، 2024. متاح هنا.