إنكار العدالة: الهجرة غير النظامية عبر ليبيا

فتحي عقيلة

محامي وأكاديمي ليبي، متحصل على ليسانس قانون من جامعة بنغازي، كما نال درجة الماجستير في القانون من جامعة إنديانا-بلومنغتون. عمل منذ عام 2011 على تدريس مواد قسم القانون الجنائي بجامعة بنغازي، له اهتمام خاص بحقوق المهاجرين وطالبي اللجوء في ليبيا.

بتاريخ 24 مارس 2023، قدمت البعثة المستقلة لتقصي الحقائق في ليبيا استنتاجاتها التفصيلية لمجلس حقوق الإنسان في الدورة الثانية والخمسين والذي جاء في مستهله "...وجدت البعثة أسبابًا معقولة للاعتقاد بأن استغلال المهاجرين ينطوي على انتهاكات للقانون الدولي لحقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني، فضلًا عن ارتكاب جرائم ضد الإنسانية. وإنّ تهريب المهاجرين، والاتجار بهم، واستعبادهم، وإجبارهم على العمل القسري، وسجنهم، وابتزازهم، يدرّ عائداتٍ كبيرةٍ على الأفراد والجماعات المسلحة ومؤسسات الدولة. كما تلقّت الكيانات التابعة للدولة في ليبيا دعماً تقنياً ولوجستياً ومالياً من الاتّحاد الأوروبي والدول الأعضاء فيه، لاعتراض المهاجرين وإعادتهم إلى ليبيا، من بين جملة من الأمور الأخرى..."

هذا وقد تواترت التقارير الدولية عن الانتهاكات الصادمة التي يتعرض لها المهاجرون في ليبيا. وقد صدرت هذه التقارير بشكل مطرد عن مؤسسات مختلفة بعضها دولي وبعضها الآخر ينتمي إلى المجتمع المحلي. وقد أماطت هذه التقارير اللثام عن تفاصيل مروعة لجرائم يتعرض لها المهاجرون وطالبو اللجوء على الأراضي الليبية. وهذا المقال هو محاولة لتقصي أسباب الإفلات من العقاب عن طريق تقييم السياسة الجنائية للمشرع الليبي وذلك للكشف عن مدى اتساق هذه السياسة مع القواعد الدولية الاتفاقية والعرفية والتي تلتزم بها ليبيا أمام المجتمع الدولي. يتعرض المقال أيضا لتبعات استمرار هذه السياسات على مسؤولية الدولة ككيان اعتباري، وعلى المسؤولية الجنائية الشخصية للأفراد القائمين على مؤسسات الدولة المتصلة بالمهاجرين غير النظاميين.

فض التنازع بين القوانين الجنائية المحلية والقواعد الاتفاقية السارية على أفعال الهجرة غير النظامية

بمراجعة أحكام القوانين المتعلقة بالهجرة غير النظامية يتضح أن هناك تنازعا في القواعد القانونية السارية. فمن جهة أكدت الاتفاقيات والمواثيق الدولية على الحق في حرية التنقل كما أكدت على عدم تجريم أفعال الهجرة غير النظامية. ومن جهة أخرى أصدر المشرع الليبي عدة تشريعات جنائية محلية تعاقب على أفعال الهجرة غير النظامية ولا تنظم الحق في اللجوء. ولفض هذا التنازع لا بد من الإحاطة بالإطار القانوني الوطني والدولي وتقصي وجود علاقة تراتبية بينهما تفيد في ترجيح القواعد السارية.

على الصعيد الوطني، جرم المشرع الليبي أفعال الهجرة غير النظامية لأول مرة عام 1962 وذلك بموجب أحكام القانون رقم 17 لسنة 1962. وفي عام 1987 أصدر المشرع الليبي تشريعا جديدا ألغى بموجبه أحكام سابقه تحت رقم 6 لسنة 1987 بشأن تنظيم دخول وإقامة الأجانب في ليبيا وخروجهم منها، والذي عاقب بموجبه عن أفعال الهجرة غير النظامية بالحبس الذي لا يزيد عن ثلاثة أشهر والغرامة التي لا تتجاوز مائة دينار أو بإحدى هاتين العقوبتين. تم تعديل القانون رقم 6 لسنة 1987 بموجب أحكام القانون رقم 2 لسنة 2004 م والذي شدد بموجبه المشرع العقوبة على مهربي البشر بعد أن كانت عقوبتهم مساوية لعقوبة المهاجر غير النظامي. وفي العام 2010 أصدر المشرع الليبي القانون رقم 19 لسنة 2010 والذي شدد بموجبه المشرع العقوبة على أفعال الهجرة غير النظامية لتصبح العقوبة الحبس مع الشغل والغرامة التي لا تزيد عن ألف دينار.

بمراجعة أحكام القوانين المتعلقة بالهجرة غير النظامية يتضح أن هناك تنازعا في القواعد القانونية السارية. فمن جهة أكدت الاتفاقيات والمواثيق الدولية على الحق في حرية التنقل كما أكدت على عدم تجريم أفعال الهجرة غير النظامية. ومن جهة أخرى أصدر المشرع الليبي عدة تشريعات جنائية محلية تعاقب على أفعال الهجرة غير النظامية ولا تنظم الحق في اللجوء.

وفي أغسطس من العام 2011 صدر الإعلان الدستوري (الدستور المؤقت للبلاد) عن المجلس الوطني الانتقالي الليبي والذي أكد بموجبه المشرع على وجوب احترام الحق في حرية التنقل، كما نص على وجوب احترام الحق في اللجوء. حيث نص في مادته الرابعة عشر على وجوب أن تضمن الدولة حرية التنقل. كما جاءت المادة العاشرة بأن (تكفل الدولة حق اللُجوء بمقتضى القانون، ولا يجوز تسليم اللاجئين السياسيين)

وفي عام 2013 أصدرت الدائرة الدستورية بالمحكمة العليا حكمها الكاشف عن سمو قواعد القانون الدولي والاتفاقية التي تمت المصادقة عليها على قواعد التشريعات الداخلية على اختلاف قوتها التشريعية ودون حاجة إلى صدور أي تشريع داخلي. حيث أن مصادقة المشرع على الاتفاقية هي تصريح بإنفاذ قواعد الاتفاق الدولي وإعطائها قوة تسمو على ما دونها من القواعد المحلية. وجاء في الطعن الدستوري "من المقرر أن الاتفاقيات الدولية التي ترتبط بها الدولة الليبية تكون نافذة بمجرد إتمام إجراءات المصادقة عليها من السلطة التشريعية في الدولة، وتكون لها أسبقية التطبيق على التشريعات الداخلية، بحيث إذا حدث تعارض بين أحكامها وأحكام التشريعات الداخلية، فإن أحكام الاتفاقية هي الأولى بالتطبيق، ودون حاجة إلى تعديل أي تشريعات داخلية قد تكون متعارضة معها". (طعن دستوري رقم 1/57 ق) وبهذا الحكم فإن الدائرة الدستورية قد وسعت مصادر حقوق الإنسان الوضعية، بحيث أصبحت قواعد الاتفاقيات الدولية المصادق عليها نافذة في مواجهة المشرع الوطني.

لا يخفى على القارئ أن ليبيا قد صادقت على اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الجريمة المنظمة عبر الوطنية وبروتوكولاتها الملحقة بها، ومنها بروتوكول منع وقمع ومعاقبة الاتجار بالأشخاص، وخاصة النساء والأطفال، وبروتوكول مكافحة تهريب المهاجرين عن طريق البر والبحر والجو. وبالتالي فإن أحكام المسؤولية الدولية والجنائية الفردية سيكون مرجعها الاتفاقات الدولية بالدرجة الأولى ومن ثم يأتي القانون الوطني المتوافق مع قواعد الاتفاقية الدولية.

وتتحمل الدولة الليبية مسؤولية إخفاق المشرع الوطني في هذا الصدد ولا يجوز لها الاحتجاج بأحكام التشريع الداخلي لدرء المسؤولية، فقد نصت المادة 27 من اتفاقية فيينا لقانون المعاهدات على "لا يجوز لطرف في معاهدة أن يحتج بنصوص قانونه الداخلي كمبرر لإخفاقه في تنفيذ المعاهدة." كما لا يجوز للأشخاص درء المسؤولية الجنائية الفردية عن أنفسهم بالتمسك بأحكام التشريع الداخلي. فالقواعد التي تجرم الأفعال المنسوبة للأفراد قد اكتسب صفة القواعد الآمرة في القانون الدولي والتي لا يدحضها التمسك بالمفهوم الشكلي للشرعية الجنائية. حيث أن التقارير الدولية قد وثقت لعديد حالات القتل العمد، والتعذيب، والإخفاء القسري، والإستعباد، وغيرها من الانتهاكات التي ارتكبت في إطار واسع النطاق أو منهجي، وهو الأمر الذي يدخل في اختصاص محكمة الجنايات الدولية وفقا لقرار الإحالة الصادر من مجلس الأمن.

كما لا يخفى على القارئ أن ليبيا قد صادقت على اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الجريمة المنظمة عبر الوطنية وبروتوكولاتها الملحقة بها، ومنها بروتوكول منع وقمع ومعاقبة الاتجار بالأشخاص، وخاصة النساء والأطفال، وبروتوكول مكافحة تهريب المهاجرين عن طريق البر والبحر والجو. وبالتالي فإن أحكام المسؤولية الدولية والجنائية الفردية سيكون مرجعها الاتفاقات الدولية بالدرجة الأولى ومن ثم يأتي القانون الوطني المتوافق مع قواعد الاتفاقية الدولية. حيث أن أحكام البروتوكول تقضي بعدم جواز تجريم أفعال المهاجر، حيث أن الاتفاقية تعامل المهاجر على أنه ضحية للجريمة وليس مرتكبا لها.

وفي هذا الصدد يمكن القول إن عام 2013 قد كان عاما مليئا بالآمال الحقوقية حيث أن صدور حكم الدائرة الدستورية المشار إليه سلفا قد حفز وزارة العدل على إعداد مشروع قانون بشأن الاتجار بالبشر ينص على حماية ضحايا الاتجار بالبشر. إلا أن مباحثات إقرار وصياغة وتشريع هذا القانون قد طالها النسيان والإهمال. وسنة بعد أخرى، تصدر التقارير الدولية التي توثق لحالات تتعرض لفظائع في السجون الليبية وداخل معتقلاتهم لدى عصابات الاتجار بالبشر. كما تدين هذه التقارير الممارسات التي تقوم بها قوات مدعومة من الدولة الليبية، لا تلتزم حتى بمعايير القانون الوطني.

يمكن القول إن عام 2013 قد كان عاما مليئا بالآمال الحقوقية حيث أن صدور حكم الدائرة الدستورية المشار إليه سلفا قد حفز وزارة العدل على إعداد مشروع قانون بشأن الاتجار بالبشر ينص على حماية ضحايا الاتجار بالبشر. إلا أن مباحثات إقرار وصياغة وتشريع هذا القانون قد طالها النسيان والإهمال. وسنة بعد أخرى، تصدر التقارير الدولية التي توثق لحالات تتعرض لفظائع في السجون الليبية وداخل معتقلاتهم لدى عصابات الاتجار بالبشر.

وقد صدر تقرير البعثة المستقلة لتقصي الحقائق ليكشف عن ممارسات مدعومة من دول الاتحاد الأوروبي. حيث تستمر دول الاتحاد الأوروبي في تقديم الدعم للمؤسسات المنتهكة لحقوق المهاجرين في مسلك يمكن أن يفسر بأن دول الاتحاد الأوروبي توظف السلطات الليبية لتقوم بانتهاك الحق في حرية التنقل نيابة عنها، فطبيعة المساعدات المقدمة من بعض دول الاتحاد الأوروبي تحدد نوايا هذه الدول في إنكار الحق في حرية التنقل، حيث تمد دول الاتحاد الأوروبي السلطات بالمعدات اللازمة لاعتراض المهاجرين وإعادتهم قسرا إلى الأراضي الليبية، أي إلى الاعتقال والاغتصاب والتعذيب وكل صنوف الجرائم البشعة التي ترتكبها عصابات الاتجار بالبشر والتي تتخذ من الأراضي الليبية مسرحا لجرائمها.

وعلى الرغم من رجحان كفة الاتفاقيات الدولية في أي جدل قانوني، وعلى الرغم من وضوح حكم الدائرة الدستورية في الكشف عن علو القواعد الاتفاقية الدولية على التشريعات الداخلية، لازالت دائرة ونيابة الهجرة غير الشرعية في المحاكم الليبية تطبق القانون رقم 19 لسنة 2010 بشأن مكافحة الهجرة غير المشروعة، متجاهلة لما تم ذكره من تنازع منفض لصالح قواعد الاتفاقيات الدولية السارية بخصوص وقائع الهجرة غير النظامية. حيث أن مسلك المشرع الليبي متناقض وغير متسق، فهو من جهة يصادق على الاتفاقية الدولية، ومن جهة أخرى يصدر تشريعا يعارض مبادئ الاتفاق الدولي. فقد صادق المشرع الليبي على اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الجريمة المنظمة عبر الوطنية وبروتوكولاتها وأصدر تشريعا بعد سريان الاتفاقية بست سنوات فقط. يناقض التشريع رقم 19 لسنة 2010 المادة الخامسة من بروتوكول مكافحة تهريب المهاجرين عن طريق البر والبحر والجو حيث يناقض كلا من العهد والإعلان العالمي لحقوق الإنسان أيضا.

ويبدو أن القضاء الليبي لا يعلم بأن استمرار الدولة الليبية في اعتقال المهاجرين غير النظاميين فإنه يحملها المسؤولية القانونية الدولية عن الانتهاكات التي تحصل للمهاجرين داخل مراكز الاحتجاز.

حيث أن القانون رقم 19 لسنة 2010 غير دستوري ويقمع إحدى حقوق الإنسان الأساسية.

حيث نصت المادة الخامسة من بروتوكول مكافحة تهريب المهاجرين عن طريق البر والبحر والجو والمكمل للاتفاقية على أنه "لا يصبح المهاجرون عرضة للملاحقة الجنائية بمقتضى هذا البروتوكول، نظرا لكونهم هدفا للسلوك المبين في المادة 6 من هذا البروتوكول". أي أن هذا البروتوكول اعتبر أن المهاجر غير النظامي ضحية للجريمة وليس مرتكبا لها.

وقد جرمت المادة السادسة من البروتوكول أفعال تهريب المهاجرين للحصول بطريقة مباشرة أو غير مباشرة على منفعة مالية أو منفعة مادية أخرى.

كما نص الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في مادته الثالثة عشر على "1- لكل فرد حق في حرية التنقل واختيار محل إقامته داخل حدود الدولة. 2- لكل فرد حق في مغادرة بلده، بما في ذلك بلده، وفي العودة إلى بلده". كما نص العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية على احترام هذا الحق وتنظيم التمتع به بشكل لا يتعارض مع أصل الحق. فقد جاء في المادة الثانية عشر "1- لكل فرد يوجد على نحو قانوني داخل إقليم الدولة حق حرية التنقل فيه وحرية اختيار مكان إقامته. 2- لكل فرد حرية مغادرة أي بلد، بما في ذلك بلده".

وبعد عشر سنوات من سريان اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الجريمة المنظمة عبر الوطنية والبروتوكولات الملحقة بها أصدر المشرع الليبي قانون رقم 24 لسنة 2023 يجرم "توطين" الأجانب في ليبيا. أبقى المشرع الليبي على العقوبة الجنائية للمهاجر غير النظامي المنصوص عليها في القانون رقم 19 لسنة 2010، ولكنه أضاف صورا جديدة للتجريم تعارض جوهر الاتفاقيات الدولية السارية بالخصوص.

وبالنظر في القوانين الليبية التي تجرم الهجرة غير النظامية، يتضح أن المشرع الليبي لا يأخذ في حسبانه الالتزامات الدولية المفروضة عليه والتي صادق عليها.

بل يصدر تشريعات تناقض مؤدى هذه الاتفاقيات، بل وتدعم سياسات ممنهجة ضد هذه الفئة الهشة من الأشخاص. حيث أن تجريم أفعال الهجرة غير النظامية يؤدي إلى حرمان هذه الفئة من التمتع بالحماية القانونية والرعاية الصحية اللازمة، والتي يجب أن يتمتع بها كل إنسان. فالمؤسسات القائمة على اعتقال المهاجرين غير النظاميين هي مؤسسات يعتريها الفساد كما يعتري الكثير من مؤسسات الدولة في ليبيا.

وبالنظر في القوانين الليبية التي تجرم الهجرة غير النظامية، يتضح أن المشرع الليبي لا يأخذ في حسبانه الالتزامات الدولية المفروضة عليه والتي صادق عليها.

القوانين الليبية المعمول بها و المجرمة للهجرة غير النظامية

1. القانون رقم 6 لسنة 1987 (المساواة بين الضحية والجلاد).

يجرم القانون الدخول إلى الأراضي الليبية أو الإقامة فيها بشكل غير نظامي، و يعاقب هذا القانون على الهجرة غير النظامية وتهريب البشر بالحبس الذي لا تزيد مدته عن ثلاثة أشهر والغرامة التي لا تزيد عن مائة دينار أو بإحدى هاتين العقوبتين.

يؤخذ على هذا القانون أنه لم يميز بين مهربي البشر ومرتكبي الانتهاكات ضد المهاجرين، والمهاجرين أنفسهم وطالبي اللجوء. حيث ساوى بينهم بشكل عشوائي في التجريم، وذلك بالمخالفة لأحكام القانون الدولي لحقوق الإنسان. كما نص هذا القانون أيضا على ترحيل المهاجرين قسرا إلى بلدانهم.

عُدل هذا القانون بموجب القانون رقم 2 لسنة 2004، حيث تدارك أمر التفرقة بين المهاجر وعصابات تهريب المهاجرين، والذي شدد بموجبه العقوبة على مهربي المهاجرين لتصبح عقوبتهم الحبس لمدة لا تقل عن سنة والغرامة التي لا تتجاوز ألف دينار ليبي. وأبقى هذا التعديل على تجريم أفعال الهجرة غير النظامية.

2. القانون رقم 19 لسنة 2010 (النكث بالعهود الدولية)

تجدر الإشارة هنا أن القانون رقم 19 لسنة 2010 لم يلغ صراحة كل أحكام القانون رقم 6 لسنة 1987 بل ظلت العلاقة تكاملية فيما بين القانونين فيما لم يرد بشأنه نص في القانون رقم 19 لسنة 2010.

ويؤخذ على هذا القانون أنه قد صدر بعد مصادقة ليبيا على اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الجريمة المنظمة عبر الوطنية والبروتوكولات المكملة لها ولكنه لم يحترم أحكام هذه الاتفاقية. فقد شدد المشرع بموجب أحكام هذا القانون العقوبة على المهاجرين غير النظاميين لتصبح الحبس مع الشغل والغرامة التي لا تزيد عن ألف دينار.

من أكبر العيوب التي اعترت هذا القانون هو الشح في التأكيد على الضمانات القانونية للمهاجر والمحال إلى الجهة المختصة للتحقيق والمحاكمة. حيث اكتفي المشرع الليبي بالنص في المادة العاشرة على "وعلى الجهة المشار إليها في الفقرة السابقة – المقصود هنا وزارة الداخلية- معاملة المهاجرين غير الشرعيين عند القبض عليهم معاملة إنسانية تحفظ كرامتهم وحقوقهم وعدم الاعتداء على أموالهم ومنقولاتهم".

تجدر الإشارة هنا إلى أن البعض قد يرى بأن الحماية والضمانات العامة التي يوفرها قانون الإجراءات الجنائية الليبي حذا بالمشرع الليبي إلى الاكتفاء بهذه الفقرة المقتضبة. ولكن ما يجب أخذه في الاعتبار أن هذه الطائفة من الأشخاص هي الأضعف من بين المحبوسين احتياطيا حيث من خلال متابعة العمل بالمحاكم اتضح عدم معرفة الكثير منهم لطريقة الحصول على حقوقهم، حيث أن كثيرا منهم لا يجيد اللغة العربية وفي بعض الحالات قد يكونون عرضة للتجهيل بحقوقهم في ظل غياب الدعم النفسي والمعنوي لهم.

حيث أن ضعفهم يشكل ظرفا استثنائيا وداعيا ملحا إلى تضمين جميع الضمانات القانونية في قانون مكافحة الهجرة غير الشرعية من وجوب تواجد المترجم في جميع مراحل التحقيق، والحق في الاتصال بالمحامي، والرعاية الصحية السابقة على التحقيق، وغيرها من الضمانات الخاصة بالمهاجرين كتوفير وسيلة للاتصال ببلد المغادرة لطلب المساعدة القانونية أو المادية.

جرم المشرع الليبي في هذا القانون عدة صور من الهجرة غير النظامية منها على سبيل المثال: جريمة الدخول إلى الأراضي الليبية أو الإقامة بها دون إذن أو تصريح من الجهات المختصة بقصد الاستقرار فيها أو العبور إلى دولة أخرى، وعاقب عن ارتكابها بالحبس مع الشغل والغرامة التي لا تزيد عن ألف دينار. جرم المشرع تشغيل المهاجرين غير النظاميين، وعاقب عن هذه الأفعال مكتفيا بالغرامة التي تتراوح بين ألف وثلاثة آلاف دينار. كما حمل المشرع عبء الإبلاغ عن المهاجرين غير النظاميين للمواطن مباشرة بأن نص على تجريم عدم الإبلاغ عن المهاجرين غير النظاميين. كما عاقب المشرع الليبي الموظفين العمومين على عدم الإبلاغ عن حالات الهجرة غير النظامية المنصوص عليها في هذا القانون بالحبس مدة لا تقل عن سنة وبغرامة لا تقل عن ألف دينار ولا تزيد عن خمسة آلاف دينار، وقد عاقب المشرع إذا ارتكب هذا الفعل عن إهمال بالغرامة التي لا تقل على خمسمائة دينار ولا تزيد عن خمسة آلاف دينار. وبإلزام المشرع الموظفين العمومين الإبلاغ عن جريمة الهجرة يكون قد قيد حق المهاجر المجني عليه في تقديم شكوى عن الجرائم التي ترتكب ضده. كما أن هناك نفقات اقتصادية إضافية في حال طلب خدمات صحية، نتيجة خوف المهاجر من تعرضه للقبض عليه عند طلب المساعدة الطبية من المستشفيات العامة.

نص القانون على إبعاد الأجنبي قسرا عن أراضي الدولة الليبية على أن تتولى وزارة الداخلية اتخاذ قرار الإبعاد ويؤخذ على هذا النص إغفاله لبعض التبعات الهامة والتي تتركز في نقطتين:

- عدم النص على طريق للطعن على هذا القرار الإداري بالإبعاد مما يضعنا أمام خيار اللجوء إلى القضاء الإداري للطعن على هذا القرار، وما يترتب على ذلك من إرهاق لكاهل المبعد، حيث يعاب على القضاء الإداري طول الإجراءات وارتفاع تكاليفها. حيث تداركت بعض التشريعات هذا النقص بالنص على إمكانية الطعن على قرار الإبعاد أمام القضاء الإداري الاستعجالي وألزمت دوائر القضاء الاستعجالي بأجل لا يتجاوز العشرون يوما للفصل في الطعن.

- عدم تنظيم الحالات التي لا يستطيع فيها المبعد من العودة إلى أرضه نظرا لعدم قدرته على ذلك أو نظرا لعدم حمله لمستندات سفر دالة على حالته السياسية أو جنسيته. كما أن هناك بعض الحالات التي تستدعي تدخلا إنسانيا حيث أن إرجاع بعض الأشخاص إلى بلد المغادرة يعني الموت المحتم كما هو الحال في كثير من دول القارة الإفريقية والتي تشهد العديد من الأزمات السياسية والإنسانية.

نص المشرع أيضا على المصادرة الوجوبية، فللمحكمة أن تحكم بالمصادرة وجوبا بالنسبة للأشياء والمركبات والأدوات المستخدمة في الهجرة غير النظامية إذا ثبت ملكيتها لغير حسن النية.

3. القانون رقم 24 لسنة 2023 بشأن مكافحة توطين الأجانب في ليبيا:

بعد عشر سنوات من صياغة مسودة قانون تجريم الاتجار بالبشر والتي طالها النسيان والإهمال، صدر القانون 24 مخيبا لآمال الكثيرين، حيث شكل صدور هذا القانون صدمة لكل المتابعين للشأن الحقوقي الليبي. هذا القانون هو القانون الأول المختص في مسألة الهجرة غير النظامية والذي يصدر بعد الإعلان الدستوري الصادر عام 2011 و حكم الدائرة الدستورية المشار إليه آنفا والصادر في عام 2013. اتسم هذا القانون بأنه قانون قمعي يتجاهل قواعد الدستور وأحكام المحكمة العليا وقواعد السياسة الجنائية الحديثة، حيث أن العبارات المستخدمة في هذا القانون فضفاضة تفسح المجال أمام الانحراف بقاعدة الشرعية. أضاف القانون وصفا جديدا للهجرة غير النظامية مما يدل على توسع المشرع في التجريم على عكس ما تقضي به السياسة الجنائية الرشيدة.

فجريمة الهجرة غير النظامية جريمة تنظيمية مصطنعة. وقد اتفق علماء الإجرام على انعدام الخطورة الإجرامية في هذا النوع من الجرائم. ولذلك، إن سلب حرية المهاجر غير النظامي لا يدرأ أي خطورة إجرامية عن المجتمع، بل ويتحمل المجتمع نفقات تقييد الحرية ويخلق بيئة من الاضطهاد والعنف والابتزاز داخل مؤسسات احتجاز المهاجرين غير النظاميين. وقد انتقد الكثير من علماء السياسية الجنائية الحديثة العقوبات المقيدة للحرية قصيرة المدى لأسباب عديدة.

كما تجاهل القانون المذكور أحكام الدستور، فقد تجاهل هذا القانون اللجوء جملة وتفصيلا. فلا توجد أي إشارة لاستثناء طالبي اللجوء السياسي أو الإنساني من تطبيق أحكام هذا القانون القمعي الخالص. فقد نصت المادة العاشرة من الإعلان الدستوري على أن "تكفل الدولة حق اللُجوء بمقتضى القانون". مما يجعل من ليبيا موطنا غير دستوري ويصادم الاتفاقيات الدولية التي صادقت عليها ليبيا.

أن إصرار المشرع الليبي على تجاهل الحلول البديلة يؤدي في المقام الأول إلى الانحراف بالعنف المشروع إلى العنف غير المشروع، الأمر الذي ينجم عنه فظائع تحصل داخل مراكز الاحتجاز الرسمية، فما بالك بأوكار جماعات الاتجار بالبشر.

يتضح من خلال مطالعة الجدل القانوني المثار في هذا المقال، أن الاتفاقيات الدولية قد تجاوزت التجريم كحل للآثار السلبية للهجرة غير النظامية. حيث تطرح الاتفاقيات حلولا إدارية ومالية أخرى من شأنها أن تحقق غايات المجتمع الاقتصادية والأمنية في حماية المجتمع المحلي ومجتمع المهاجرين من الظلم والعسف والجور. حيث أن إصرار المشرع الليبي على تجاهل الحلول البديلة يؤدي في المقام الأول إلى الانحراف بالعنف المشروع إلى العنف غير المشروع، الأمر الذي ينجم عنه فظائع تحصل داخل مراكز الاحتجاز الرسمية، فما بالك بأوكار جماعات الاتجار بالبشر.

كما أن استمرار هذه السياسات الجنائية المتطرفة والقمعية من شأنه أن يخلق بؤرا إجرامية تتمتع بالقوة الاقتصادية والمال الفاسد والذي يمكن أن يقوض دعائم النظام الديمقراطي الذي يسعى الليبيون إلى تحقيقه. فتجريم الهجرة غير النظامية وتخويل جهاز قمعي كجهاز دعم الاستقرار باعتقال المهاجرين اليائسين، لا يمكن أن يؤدي بأي حال من الأحوال إلى سيادة القانون. حيث أن جهاز دعم الاستقرار قد أسس لحماية أمن الدولة ولكنه أسس إدارة للجباية من أموال المهاجرين بل والاتجار بهم. فإدارة مكافحة التوطين والهجرة مسؤولة عن الفظائع التي تحدث في أبو سليم، وعين زارة، وأبو عيسى، فضلا عن الجرائم ضد الإنسانية التي ارتكبتها إدارة مكافحة التوطين والهجرة غير القانونية الخاضعة له، فيما يتعلق بعمليات الاعتراض البحرية العنيفة قبالة سواحل الزاوية. ولا يخفى أن هذه الإدارة تابعة للدولة وتتحمل الدولة مسؤولية الانتهاكات التي يرتكبها أعضاؤها أمام المجتمع الدولي. يمكن القول إن الأموال الطائلة التي تدرها سياسة التجريم على مؤسسات نافذة في الدولة، يحول دون اتخاذ قرارا سياسي أو قضائي يقضي بإنفاذ أحكام الاتفاقيات الدولية على الأراضي الليبية. وإلى حين اتخاذ قرار حاسم من المدعي العام للجنايات الدولية بموجب الإحالة الصادرة من مجلس الأمن عام 2011، سيستمر إنكار العدالة.

Fathi AGEILA

A Libyan lawyer and academic, he holds a law degree from the University of Benghazi and a master’s degree in law from the Indiana-Bloomington University. Since 2011, he has taught courses in the Criminal Law Department at the University of Benghazi. He has a special interest in the rights of migrants and asylum seekers in Libya.

Previous
Previous

حوار حول الهجرة والمهاجرين

Next
Next

ليبيا: ماهية المشروعية في فقه قضاء المحكمة العليا