مرصد عدالة : مقال تحليلي حول القانون رقم 2010/19 بشأن الهجرة "غير الشرعية" في ليبيا
تدابير الشمال المسقطة على الجنوب
خلافا لما جاء على لسان أحد شخصيات مسرحية للفيلسوف الوجودي الفرنسي جون بول سارتر: "الجحيم هو الآخرون"، وسواء اعتبرنا التراث والتاريخ الليبي وما يعطيه من أهمية لقيم إكرام الضيف وإجارة المستجير والمستضعف، والتي تعززت بالنواميس الدينية، أو اعتبرنا انتماء ليبيا للمتوسط مهد الحضارة الذي اعتادت شعوبه على الهجرة والانتقال منذ فجر التاريخ شعوبا وقبائل ورسل وطوائف أكثر من أي منطقة أخرى في العالم، وحتى أن اعتبرنا تاريخ الإنسانية ألم يكن الإنسان الأول في حالة هجرة إلى أن عمر هذا العالم؟ ومن الطرافة بمكان أن يكون منطلقه حسب العلماء المختصين هو القارة الافريقية
منذ بضعة عقود وحتى اليوم، ضاق العالم ضرعا بتلك الموجات من الهجرة التي لم تنقطع، بل اختلفت في الكيف والكم ليصبح هناك نوع “هجرة غير مقبولة”، يسميها من يرى فيها تهديدا لمصالحه هجرة “غير شرعية” ومن يكيفها بشيء من الموضوعية “هجرة غير نظامية
لا تعد ليبيا بلد انطلاق لتلك الهجرات ولا بلد وصول، لكنها معنية منذ سنوات بالظاهرة كبلد عبور بما جعل الدولة الليبية تسن قانون 19/2010 بشأن الهجرة “غير الشرعية” تحديدا في 28 يناير 2010
ورد قانون “الهجرة غير الشرعية” الليبي مجافيا لحقوق الإنسان التي صادقت الدولة الليبية عليها، وجاء مخالفا للإعلان الدستوري لسنة 2011. ينطوي قانون الهجرة على نظرة وتصور دوني وسلبي للمهاجر غير النظامي إلى درجة تجريمه وإقرار عقوبة سجنية له ويقع إبعاده بعد تنفيذها، مما يتنافى مع الشريعة الإسلامية التي يبوئها الإعلان الدستوري مكانة المصدر الرئيسي للتشريع الذي لا يمكن أن تقع مخالفته. كما يتنافى القانون مع الاعتبارات الإنسانية الذي يعتبر أن المهاجر غير النظامي ليس مجرما أو معتديا، بل هو إنسان له حقوق وفي أغلب الأحيان دفع للهجرة حفاظا على حياته وعلى حياة أسرته من هول الحروب والظلم، وانعدام الأمن والتنمية، أو حتى لأسباب طبيعية كالمجاعة وتغير المناخ والتصحر وما إلى ذلك من كوارث لا مسؤولية له فيها، وهو ما جعل القانون الدولي يمنع إرجاع المهاجر حتى وأن كان غير نظامي في صورة وجود خطر أو تهديد على حياته أو صحته أو سلامته في بلده. مثلما ورد باتفاقية مناهضة التعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللا إنسانية أو المهينة والتي صادقت عليها الدولة الليبية، حيث نصت في مادتها الثالثة على أنه: "1- لا يجوز لأية دولة طرف أن تطرد أى شخص أو تعيده (أن ترده) أو أن تسلمه إلى دولة أخرى، إذا توفرت لديها أسباب حقيقة تدعو إلى الاعتقاد بأنه سيكون في خطر التعرض للتعذيب. 2- تراعى السلطات المختصة لتحديد ما إذا كانت هذه الأسباب متوافرة، جميع الاعتبارات ذات الصلة، بما في ذلك، في حالة الانطباق، وجود نمط ثابت من الانتهاكات الفادحة أو الصارخة أو الجماعية لحقوق الإنسان في الدولة المعنية". ولا يضع قانون 19/2010 أي اعتبار أو معيار للتفرقة بين المهاجرين غير النظاميين الممكن ابتعادهم والممنوع إبعادهم على معنى القانون الدولي رغم مصادقة الدولة الليبية على تلك النصوص
تعد اتفاقية منظمة الوحدة الأفريقية حول اللاجئين النص الأخص والأكثر انطباقا حيث تعطي تلك الاتفاقية المصادق عليها من الدولة الليبية عدة حقوق للاجئ والمهاجر. جاء بالمادة الثانية فقرة ثالثة من الاتفاقية: "لا يجوز لدولة عضو أن تخضع أي شخص لإجراءات كالمنع من عبور الحدود أو الطرد أو الإبعاد، وهي إجراءات قد تضطره إلى العودة أو إلى البقاء في بلد تتعرض فيه حياته أو سلامته الشخصية أو حريته للخطر، كما تنص عليه الأسباب المبينة في المادة الأولى (الفقرتان الأولى والثانية)". وهو ما انتهكه قانون 19/2010 الذي شرع بكل بساطة لمنع عبور اللاجئين في إطار سياسة الدول الأوروبية في تصدير حدودها وتكليف دول شمال أفريقيا بحراستها والحيلولة دون وصول المهاجرين عبر أراضيها، على غرار ما جاء بالمادة 12 من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية التي حرمت النقل أو الترحيل القسري للمهاجرين أي اجبارهم دون رضاهم وإرادتهم على التنقل أو العودة
فضلا عن الحق في التنقل، يتجاهل قانون 19/2010 الحق في طلب اللجوء والتمييز بين طالب اللجوء وغيره من المهاجرين. كما يتجاهل القانون حقوق المهاجرين غير النظاميين في معاملة إنسانية لائقة والتمتع بضمانات محاكمة عادلة إذ لا ينظم أية مساعدة قضائية فعالة للمهاجر غير النظامي الذي يحال للمحاكمة حسب القانون، ولا يسخر له مترجم في مرحلة التحقيق أو المحاكمة، حيث أن أغلبهم لا يتحدثون العربية أو الإنجليزية بالضرورة، بل لم يتلقى أغلبهم تعليما مناسبا لإتقان لغة غير لهجاتهم الأصلية. لا يتوفر للمهاجر غير النظامي المبعد حق اللجوء إلى المحاكم الليبية بصفة ناجعة وفعالة، لأن القانون لا يفترض إرجاء تنفيذ قرار الإبعاد إلى حين بت القضاء في اعتراضه أو تظلمه حتى على فرض وصوله إلى محكمة مختصة
دون مزيد من الخوض في تفاصيل القانون المذكور، فأن تصوره وتمثله للمهاجر غير النظامي يعكس نزعة عنصرية لا تتناسب مع البعد العربي والأفريقي والإسلامي للشعب الليبي. وصف الهجرة “بغير الشرعية” والحال أنها ظاهرة بشرية اجتماعية عادية بل ضرورية، يترجم تبني النظام آنذاك للنظرة اليمينية للحكومات الأوروبية التي كان بصدد خطب ودها، والتي تعتبر المهاجرين غير النظاميين خطرا محدقا وهجوما يشبه الاحتلال على أراضيها. الحال أن أغلب أولئك المهاجرين هم ضحايا ظروف بلدان المنشأ وما تعانيه من عنف وقحط وجفاف وفقر. وهم كذلك ضحايا لعصابات الاتجار بالبشر التي تستغل مآسي المهاجرين، لتزهر على ضفتي المتوسط والتي ساوى قانون 19/2010 بينهم وبين ضحاياهم من المهاجرين بتجريمهم معهم، فضلا عن عدم اكتراث ذلك القانون بالجانب الإنساني والاجتماعي وظروف إقامة المهاجرين بليبيا، وأنهم في غالب الأحيان في وضعية صحية ونفسية حرجة بعد أهوال فرار من مناطق حرب أو عبور للصحراء مشيا على الأقدام أو بوسائل بدائية.
الأنكى من ذلك أن القانون المذكور لا يميز بين الرشد والقصر ولا يضع أي إجراءات حمائية للأطفال أو الوضع الأسري الممكن في صورة حبس الأولياء أو بقية الأسرة، حيث أن جمهور المهاجرين غير النظاميين لم يعد يقتصر على شبان مغامرين يحلمون بالرفاهية الغربية بل أصبح معظمهم عائلات بأكملها تتنقل عبر الصحراء فرار من ظروف أمنية أو تنموية غير إنسانية بما يفترض في التشريع إيلاء اهتمام للمراة والطفل والشيوخ والأشخاص ذوي الإعاقة، إلا أن قانون 19/2010 يجرم بالجملة ودون استثناء كذلك حتى لتلك الاعتبارات البديهية الإنسانية كما لو كانت الدولة الليبية مكلفة بتنفيذ تعليمات لا تملك مخالفتها
لا شك أن هذا القانون لا يعكس تطلعات الشعب الليبي التي عبر عنها الإعلان الدستوري لسنة 2011، بل هو من زمرة النصوص المخالفة له والتي وعملا بالمادة 35 من الإعلان، يجب أن تعتبر غير سارية إلى حين تعديلها أو تعويضها والتي وللأسف لا تبدو السلطة التشريعية واعية بضرورة التصدي لها والتي تتمسك بها السلطة التنفيذية بحثا عن أسهل الحلول وأقلها تحميلا للمسؤولية. يبقى من واجب السلطة القضائية البت في مسألة نفاذها وإعلاء للقواعد الدستورية واحتراما لما جاء بالاتفايات الدولية لحقوق الإنسان وتحقيقا لأهداف ثورة فبراير 2011 وسيادة الدولة الليبية على أراضيها