المادة 178 من قانون العقوبات الليبي: الترسانة القانونية القمعية لعهد القذافي مازالت مستمرة
النص ينتهك حرية الرآي و التعبير
يخالف نص المادة 178 للمواد 7 و31 من الإعلان الدستوري، حيث ترسي المادة 7 التزام ليبيا بالمعاهدات الدولية الخاصة بحماية حقوق الإنسان، وترسي المادة 31 مبدأ المشروعية الجنائية التي يعصف بها نص المادة 178 عقوبات. كما أكدت المادة 6 [1]من قانون 29 للعدالة الانتقالية الصادر في 2013 علي “بطلان التشريعات الظالمة “وعدم مشروعيتها
وقد فسرت لجنة حقوق الإنسان للأمم المتحدة في التعليق رقم 34 بشأن تفسير المادة 19 من العهد الدولي، التي تضمن حرية التعبير، في الفقرة ٢٥ من التعليق: يجب أن تصاغ القاعدة التي ستعتبر بمثابة "قانون" بدقة كافية لكي يتسنى للفرد ضبط سلوكه وفقاً لها، ويجب إتاحتها لعامة الجمهور. ولا يجوز أن يمنح القانون الأشخاص المسؤولين عن تنفيذه سلطة تقديرية مطلقة في تقييد حرية التعبير. ويجب أن ينص القانون على توجيهات كافية للمكلفين بتنفيذه لتمكينهم من التحقق على النحو المناسب من أنواع التعبير التي تخضع للتقييد وتلك التي لا تخضع لهذا التقييد
يخرق النص بصفة فجة الحق في حرية الرأي والحق في حرية التعبير، ويطال كذلك الحق في حرية الصحافة والنشر، رغم أنها حقوق مكرسة ومضمونة بصريح الإعلان الدستوري لسنة 2011، والعهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية، والميثاق الأفريقي لحقوق الإنسان والشعوب الذي يتميز بتكريس وحماية الحق في المعلومة، الذي تنتهكه المادة 178 من قانون العقوبات التي تكرس كذلك تمييز غير موضوعي وبالتالي غير دستوري ومخالف لحقوق الإنسان بين الليبي في الداخل والليبي في الخارج. والأنكى من ذلك يمنع على الليبي في الخارج ما هو متاح لغيره من حرية نشر ورأي وتعبير بما يفرغ الغاية منه طالما أن ما يزعم النص تفاديه هو متاح وممكن لغير الليبي. في نفس سياق عدم التناسب، يمكن الإشارة كذلك أن النص شرع لزمن كان الوصول فيه إلى وسائل النشر والإعلام محدودا ومضيقا وغير متاح للجميع، والحال أنه ومنذ أكثر من عقد، قضت المعلوماتية والأنترنت على تلك القوالب القديمة للنشر والتعبير، كما همشت حتى مفهوم الحيز المكاني والجغرافي ومفهوم الداخل والخارج، مما يجعل مثل نص المادة 178 من قانون العقوبات جدير بالدراسة ضمن تاريخ القانون الليبي وتطور مسألة الحريات ضمنه
لا يفهم مما سبق أن حرية الرأي أو التعبير أو النشر مطلقة أو لا يمكن تقييدها، حيث أنه بموجب الاتفاقيات الدولية فتلك الحقوق يمكن تقييدها، بل يجب في حالات تهم المصلحة العامة في غاياتها بصفة موضوعية في إطار مجتمع ديمقراطي وبطريقة تتناسب مع تلك الغايات، أي دون إلغاء جوهر الحق أو اتخاذ تدابير تتجاوز تلك الغايات وهو ما لا يتوفر في المادة 178 من قانون العقوبات التي يمكن اعتبارها من فئة النصوص القانونية التي وجب على القضاء إقصاء تطبيقها لمخالفتها الإعلان الدستوري في انتظار نص قانون يعدلها أو يعوضها بما يتوافق معه وهو ما يشير إليه الإعلان الدستوري الذي لا يبقي إلا على النصوص التي لا تتعارض معه والتي يسمح باستمرار العمل بها
نظرا لمخالفة نص المادة 178 عقوبات للمادة 15 والمادة 19 من العهد، فمن ثم ينطبق عليه ما ورد في الطعن الدستوري 57/01 الصادر في ديسمبر 2013، والذي أقر بتفوق الاتفاقية الدولية على القانون الوطني، وأنه "في حالة التناقض بين القوانين الوطنية والاتفاقيات الدولية، يجب تطبيق أحدث (اتفاقية دولية) ذات صلة مصدق عليها من السلطات الليبية أمام المحاكم الوطنية
نصوص فضفاضة تنتهك بشكل صارخ مبدأ المشروعية الجنائية
استقر مبدأ شرعية الجرائم والعقوبات في العديد من المواثيق الدولية، من بينها الفقرة الأخيرة من المادة 11 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والفقرة الأولى من المادة 15 من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية ، كالمادة 2.7 من الميثاق الافريقي لحقوق الانسان و الشعوب و المادة 6 من الميثاق العربي لحقوق الانسان والمادة 7 من الاتفاقية الأوروبية لحماية حقوق الإنسان
على مستوى الصياغة ويقصد بها التحرير أو كتابة النص وما يستعمل من عبارات وتراكيب، فلم تأتي المادة 178 واضحة على النحو الذي يستجيب للمعايير الوطنية، أي الإعلان الدستوري لسنة 2011، الذي يتبنى مبدأ شرعية الجرائم والعقوبات، وللمعايير الدولية ومن ضمنها العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية والتي صادقت عليه ليبيا في 1970. ويمكن تلخيص المبدأ في أنه لا جريمة ولا عقوبة إلا بمقتضى نص قانون سابق. لكن ونظرا لأهمية ذلك القانون وآثاره على حرية الشخص وأحيانا حياته وعلى المجتمع، فلا بد أن يكون ذلك النص واضح العبارات والمصطلحات بطريقة تسمح لأي شخص بالعلم بالقانون، خاصة أنه لا يعذر أحد بجهله للقانون، ويعدل سلوكه على ضوء ذلك القانون قبل ارتكاب الفعل المجرم. أي بعبارة أخرى يمكنه قبل إتيان سلوك ما، معرفة أن كان تحت طائلة التجريم والعقاب أو على الأقل في دائرة الشبهة بما يسمح له مسبقا بدرئها وتجنبها على أن الغرض من وضوح عبارات التجريم والعقاب لا يقف عند وعي الشخص المسبق بما يمكن أن توصف به أفعاله قضائيا
كما قضت المحكمة الدستورية العليا المصرية أن: "النطاق الحقيقي لمبدأ شرعية الجرائم والعقوبات، إنما يتحدد على ضوء ضمانتين تكفلان الأغراض التي توخاها
أولاهما : أن تصاغ النصوص العقابية بطريقة واضحة محددة لا خفاء فيها أو غموض، فلا تكون هذه النصوص شبكا أو شراكاً يلقيها المشرع متصيداً باتساعها أو بخفائها من يقعون تحتها أو يخطئون مواقعها، وهي بعد ضمانة غايتها أن يكون المخاطبون بالنصوص العقابية على بينة من حقيقتها فلا يكون سلوكهم مجافيا لها، بل اتساقاً معها ونزولاً عليها.
ثانيتهما: ومفترضها أن المرحلة الزمنية التي تقع بين دخول القانون الجنائي حيز التنفيذ وإلغاء هذا القانون، إنما تمثل الفترة التي كان يحيا خلالها، فلا يطبق على أفعال أتاها جناتها قبل نفاذه، بل يتعين أن يكون هذا القانون سابقا عليها فلا يكون رجعياً". [2]
وعلى نفس الأهمية، أثر ذلك في تقييد السلط العمومية وحماية الحقوق والحريات من التعسف و الإفراط في استعمال الصلاحيات. حيث يترك النص الغامض هامشا فسيحا لأعوان الدولة سواء كانوا أمنيين أو نيابة عمومية أو قضاء هامشا واسعا للتأويل من ذلك مثل تهمة "نشر أو تبليغ أخبار كاذبة أو إشاعات كاذبة"، فلنفترض أن أحدهم قام بنشر أخبار واستند إلى مصدر معين نشره كذلك، فهل يكون تحت طائلة المادة 178 أم لا؟
يصبح السؤال أصعب إذا أردنا تحديد معيار وصف الأخبار أو الإشاعات "المبالغ فيها" أو "المثيرة للقلق". كيف يتم احتساب أو تقدير هذا القلق علما أن أي خبر يمكن اعتباره مثيرا للقلق، ضرورة أن المادة الإعلامية لا تهتم بالقطارات التي تأتي في موعدها كما يقال، والأمر بالمثل لمفهوم: "بشكل يسيء إلى سمعتها أو يزعزع الثقة بها في الخارج". فهل المقصود هو شكل النشر أم نتيجته، وبأي معيار موضوعي يمكن احتساب السمعة في الخارج أو الثقة في البلاد؟ تصل الصياغة الفضفاضة مداها في تعبير "أو قام على أي وجه من الوجوه بنشاط من شأنه إلحاق ضرر بمصالح البلاد"، وهي صياغة عامة وتستوعب حتى الصور غير الواضحة السابقة. كان بإمكان المشرع الاكتفاء بهذه الفقرة الأخيرة التي تلخص كل غموض النص وعيوبه في التطبيق. حيث تترك هذه العبارات الفيحاء المجال واسعا للمكلفين بإنفاذ القانون ليمارسوا شتى أنواع التعسف وقمع حرية الرأي والتعبير إذ ما عليهم إلا إدعاء أن ما نشر أو أي نشاط آخر أساء لسمعة البلاد أو مصالحها ليقع تتبع الشخص وربما إيقافه في الأثناء ومن ثمة إحالته ومحاكمته وحتى أن كان للقضاء الجرأة لإنصاف الشخص كما كان ذلك الأمر في عديد القضايا فسيكون ذلك بعد انتهاك حقوقه وحرياته، فالنص الفضفاض بمثابة قبعة الساحر الذي لا ندري ما الذي سيخرجه منها
بالطبع، الأنجع و الأصلح هو تدخل تشريعي لتعديل المادة 178 من قانون العقوبات، كما يقتضيه الإعلان الدستوري لسنة 2011، وفي انتظار تحمل مجلس النواب مسؤوليته التاريخية في ملائمة نصوص القانون وخاصة قانون العقوبات مع الإعلان الدستوري والاتفاقيات الدولية، وهو ما لا يبدو أولوية على الأقل الآن. في الأثناء تبقى الآمال معلقة على القضاء الجنائي والدستوري الليبي لحماية الشعب الليبي من نير نصوص انتفض ضدها وطالب بالقطع معها
نص القانون وليد عصره فهو نتيجة واقع يفترض في القانون تنظيمه وأن بحث المشرع أحيانا على خلقه وتأسيسه ودون المرور حتما بنظرية صراع الطبقات فأن نص القانون هو نتيجة صراع رؤى ونفوذ ومصالح متضاربة، وبالضرورة يعكس طبيعة السلطة القائمة والمجتمع والعلاقة بينهما. وعليه كان من الطبيعي والمنطقي أن تنتج منظومة الحكم القائمة زمن الجماهيرية في ليبيا وحتى في العهد الملكي نصوصا قانونية لا تضع ضمن أولوياتها حقوق الإنسان أو مبادئ دولة القانون والمؤسسات. يمثل قانون العقوبات قانون ردعي على الأقل في جانب هام منه، ويعكس بصورة أوضح تلك العلاقة بين طبيعة السلطة وواقع الحريات وبين النصوص القانونية وأغراضها وأولوياتها. ويزخر قانون العقوبات الليبي إلى اليوم للأسف بأمثلة من تلك النصوص التي لا تستجيب لأغراض ومصالح وتطلعات الشعب الليبي اليوم
◥
[1] " يعد ظلما وعدوانا تعطيل الحياة الدستورية في ليبيا، وتعد التشريعات التي أصدرتها النظام السابق تعبيرا عن رغباته ودون أساس شرعي أو دستوري من التشريعات الظالمة وتعتبر لاغية وغير دستورية منذ صياغتها، ولا يصح التذرع بها في مواجهات الحقوق الثابتة ويجب معالجة آثارها السلبية على الفرد والمجتمع."
[2] ذلك فى القضية رقم 48 لسنة 17 قضائية دستورية، جلسة 22 فبراير سنة 1977. نشر بالجريدة الرسمية العدد رقم 10 فى 6/3/1997. والقضية رقم 84 لسنة 17 قضائية دستورية، جلسة 15 مارس سنة 1997. نشر بالجريدة الرسمية العدد رقم 13 فى 27/3/1997.