ليبيا : اي معنى لحرية الصحافة والتعبير في ظل القانون رقم 76 لسنة 1972؟
المتأمل في ترسانة القوانين النافذة في الدولة الليبية لا يجهد في اكتشاف او ملاحظة نشاز بعضها خاصة قوانين الجماهيرية الليبية التي انتهت لكن تلك القوانين بقيت لا كأطلال ونصوص مهجورة لنظام ومنظومة قانونية خلت، بل كحاجز وتهديد لمفهوم جديد للدولة وعائق أمام تبلور ذلك التصور المؤسس على غايات نبيلة للثورة الليبية عبر عنها بكل وضوح الإعلان الدستوري لسنة 2011.لم يغفل الإعلان الدستوري عن تلك القوانين خاصة في جانب حقوق الإنسان الذي خصص له المادة السابعة كنص عام يتبنى مفهوم شامل ومتكامل لحقوق الإنسان مع خصوصية ليبية اصيلة اذ نصت على ان:
" تصون الدولة الليبية حقوق الإنسان وحرياته الأساسية وتلتزم الإنضمام الإعلانات والمواثيق الدولية والإقليمية التي تحمي هذه الحقوق والحريات وتعمل على إصدار مواثيق جديدة تكرم الإنسان كخليفة الله في الأرض."
هذه المادة التي تصدرت الباب الثاني ومن الإعلان:" الحقوق والحريات العامة " قبل أن يتناول بعضها على وجه التخصيص ومن ذلك ما جاء في المادة الرابعة عشر:
" تضمن الدولة حرية الراي وحرية التعبير الفردي والجماعي وحرية البحث العلمي وحرية الاتصال وحرية الصحافة، ووسائل الإعلام، والطباعة، والنشر.."
يتجه التعرض لاهم المواثيق الدولية التي صادقت عليها الدولة الليبية بما يجعلها جزءا من ترسانتها القانونية والتي تتعلق بحرية الرأي والتعبير والصحافة والمطبوعات والنشر
اقتضى العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية في المادة 19:"1. لكل إنسان حق في اعتناق آراء دون مضايقة.
2. لكل إنسان حق في حرية التعبير. ويشمل هذا الحق حريته في التماس مختلف ضروب المعلومات والأفكار وتلقيها ونقلها إلى آخرين دونما اعتبار للحدود، سواء على شكل مكتوب أو مطبوع أو في قالب فني أو بأية وسيلة أخرى يختارها.
3. تستتبع ممارسة الحقوق المنصوص عليها في الفقرة 2 من هذه المادة واجبات ومسئوليات خاصة. وعلى ذلك يجوز إخضاعها لبعض القيود، ولكن شريطة أن تكون محددة بنص القانون وأن تكون ضرورية:
(أ) لاحترام حقوق الآخرين أو سمعتهم،(ب) لحماية الأمن القومي، أو النظام العام ،أو الصحة العامة أو الآداب العامة."كما اقتضت المادة 9 من الميثاق الافريقي لحقوق الانسان والشعوب:
"1. من حق كل فرد أن يحصل على المعلومات.
يحق لكل إنسان أن يعبر عن أفكاره وينشرها فى إطار القوانين واللوائح."
بعد الاستعراض النظري القانوني لما يجب ان يكون لعله من المفيد ان نلج موضوع المقال وهو قانون المطبوعات حسب آخر تعديل له أي القانون رقم 76 لسنة 1972 بتاريخ 24 يوليو 1972 المنشور بالجريدة الرسمية لسنة 1972 رقم 35 السنة العاشرة وقد اتخذ تبعا لصدور الإعلان الدستوري الصادر بتاريخ 11 ديسمبر 1969 وهو في الأصل القانون الملكي رقم 11 لسنة 1959 المؤرخ في 25 يوليو 1959.للوقوف على مدى تطابق او تعارض القانون 67 لسنة 1972 مع الإعلان الدستوري فيما يخص حرية الصحافة والنشر والمطبوعات وحرية الرأي والتعبير، لا بد من الوقوف قبل ذلك حول خصائص تلك الحقوق وان كان مفهومها لا يحتاج الى كثير من الاستدلال.تتميز تلك الحقوق بالتداخل والترابط إذ من الصعوبة بمكان ان يتوفر أحدها دون ان يتوفر الاخر ويتجه الالماع أن الأصل هو حرية الرأي والتفكير بما هي حرية وحق من حقوق الانسان يهم المحتوى أو الموضوع فيما ان حرية التعبير تهم الشكل أو بالأحرى اشكال وطرق التعبير عن ذلك الرأي أيا كانت الوسائل و تطور تلك الوسائط ساهم في بروز أصناف فرعية من حقوق الإنسان كالحق في حرية الصحافة و الحق في حرية النشر والمطبوعات لجهة المهنيين او الممارسين لتلك الأنشطة من عموم الناس و الحق في المعلومة لجهة الأشخاص.وتداخل الحقوق المذكورة لا ينفي علاقتها الوثيقة ببقية حقوق الإنسان كالحق في التجمع السلمي والحق في المساهمة في الشأن العام للوطن وما تتطلبه الممارسة المثلى لتلك الحقوق في دولة قانون كمبادئ الشفافية والمساءلة.كسائر الحقوق الذاتية في القانون الوضعي، يقر القانون حقوق الإنسان بالإعلان عنها وأعمالها كمبدأ عام وتحديدها كاستثناء يجب ان يحمي حقوق الغير أو مصلحة عامة لدولة ديمقراطية لا يمكن تحقيقها دون التقييد في ذلك الحق دون النيل من أصل تلك الحقوق فيما يعرف بمبدأ التلاؤم او التناسب الذي يمثل معيارا لمدى توافق او جدية احترام الأنظمة القانونية وتطبيقها لما جاء بالدساتير و المواثيق الدولية من التزامات محمولة على الدولة.قد يحصل انطباع من المادة الأولى من قانون 76 لسنة 1972 أن يتناغم نص في المبدأ على الأقل مع الحقوق الدستورية لحرية الصحافة والطباعة والنشر إذ نصت على :" " وهو ما يوحي بأن التعارض ان وجد سيكون جزئيا و تفصيليا و لا يهم جوهر الحقوق المذكورة .سرعان ما يتبدد هذا الانطباع الإيجابي بمواصلة دراسة النص لينجلي تعارض جوهري واضح بين المادة الأولى و اثرها الذي لا يتجاوز الإعلان وبقية النص الذي يكرس في الواقع جملة من الانتهاكات المنهجية للحقوق ونبين في جزء أول من هذا المقال أوجه التعارض لننتهي في جزء ثان الى وجوب الإقرار بعدم دستورية القانون المذكور.
الجزء الأول : تعارض قانون المطبوعات لسنة 1972 مع الإعلان الدستوري
يضيق مجال هذا المقال عن الاستعراض التفصيلي لمواد القانون رقم76 لسنة 1972 المتعارض مع الإعلان الدستوري فيما يخص حرية الصحافة والطباعة والنشر الا انه يمكن تلخيص ابرز أوجه التعارض في جملة من الخيارات التشريعية كالرقابة الإدارية و الصلاحيات الواسعة للإدارة (1) وعدم ملائمة الجانب الزجري (3) بل والاعتداء الصريح على حق حرية الرأي والتعبير (4)
الرقابة الإدارية:
الرقابة الإدارية على الصحافة و المطبوعات والمنشورات، سواء كانت سابقة أو لاحقة، شانها شان الصلاحيات الواسعة الممنوحة للإدارة ، لا تتلائم وما جاء به الإعلان الدستوري الذي تجاوز منطق الرقابة واحتراز المشرع من تلك المجالات واعتبارها مصدر خطر ملم وجب التصدي له الى مفهوم اكثر ديمقراطي و حضاري لتلك المجالات باعتبارها احدى متطلبات دولة القانون والمؤسسات و المواطنة .و تتمظهر الرقابة الإدارية في قانون المطبوعات من خلال اعتماد الترخيص والاذن المسبق وهوقد يتعارض مع مبدأ الحرية ويجعل من التقييد هو المبدأ ومن حرية الصحافة والطباعة و النشر بيد السلطة الإدارية ولا يمكن مباشرتها دون موافقتها.ويتسم اعتماد الترخيص بالمبالغة اذا في مجال الطباعة للدوريات، مثلا يجب ترخيص لمن يريد طبع دورية او شبه دورية و ترخيص لتحديد مجال اختصاصها و ترخيص في العدد المطبوع بصفة دورية و ترخيص للتعديل في مضمون الترخيص وترخيص للاندماج و ترخيص للانضمام و ترخيص للمراسلين وترخيص للمحررين و ترخيص للمصورين و ترخيص لمراسلي الصحف ووكالات الإعلام الأجنبية، بما يجعل النص أقرب إلى محاصرة الصحافة منه الى تنظيمها.و كنظام بديل لنظام الترخيص، تلجأ بعض المؤسسات في الدول التي تقر بحرية الصحافة الى نظام الاعتماد لكن دون أن يؤول ذلك الى قبول او رفض للصحفيين وان كانت حرية الصحافة سجلت تطورا في مفهومها ولم تعد مقتصرة على الصحافة المحترفة أو الورقية فتطور وانتشار الاستعمالات الرقمية جعلت لكل فرد الحق في العمل الصحفي الذي أصبح نشاطا و لم يعد مقتصرا على المهنيين وهو ما أشار إليه التعليق العام للجنة المعنية بحقوق الانسان للأمم المتحدة رقم 34 في دورته 102 بجنيف من 11 الى 19 جويلية 2011 فقرة 12 صفحة 4 باعتبار الصحافة هي احدى وسائل التعبير المشمولة بالحق في التعبير.كما تتجلى الرقابة الإدارية المبالغ فيها في الرقابة اللاحقة على غرار وجوب عرض المطبوعات قبل توزيعها لموافقة السلطات أو رقابة المسائل الإدارية الداخلية للمؤسسة الصحفية التي لا تهم النظام العام كاعلام الإدارة بما يطرأ من تغييرات على مجلس الإدارة أو الرقابة على تغيير ملكية المؤسسة و المعطيات المحاسبية والجبائية للإدارة التي تغني بقية القوانين عن ما جاء به قانون 1972 من رقابة لا طائل منها .لم يقف قانون 76 لسنة 1972 عند منح الإدارة تلك الأدوار المحورية التي تمنحها إياها المراقبة و الترخيص، بل تتعداها الى صلاحيات أوسع يقتضي احترام ما جاء بالإعلان الدستوري كعقد اختصاصها للقضاء اذ ان الإدارة تجمع بطريقة لا تحترم مبادئ الحياد و رقابة القضاء بين صلاحيات الرقابة التي هي في حد ذاتها حد للحريات و بين صلاحيات الحد مباشرة من تلك الحريات على غرار ما هو مقرر لايقاف و إلغاء الرخص وصلاحيات الإدارة في إلزام المؤسسة بنشر تكذيب او تصحيح او صلاحية منع نشر دورية أجنبية او إيقاف نشر دورية نشرت خبر في موضوع ممنوع من النشر على معنى تلك المادة.في كل تلك الحالات من تقييد الحريات وحقوق الإنسان، يكون منح الإدارة ذلك الاختصاص إخلالا خطيرا في مبدأ التفرقة بين السلط وتداخل للسلطة التنفيذية في مجال اختصاص السلطة القضائية والأخطر من ذلك هو منح السلطة التنفيذية أو بالأحرى السلطة القائمة أدوات لقمع ومساومة وتضييق للحريات وحقوق الإنسان وتوظيفا لمصالح لا علاقة لها لا بالنظام العام والمصلحة العامة.
عدم ملاءمة الجانب الجزائي
تتجه الإشارة من جانب مفاهيمي مجرد ان وجود عقوبات جزائية في نص يتعلق بإقرار حريات وحقوق إنسان، يفترض ان ذلك الجانب الجزائي استثناء أولا ثم ان تلك الاستثناءات تتعلق بحماية تلك الحقوق او حماية النظام العام أو مصلحة عامة مشروعة ومبررة وضرورية، خاصة أن التشريع الحديث والمعايير الدولية في مجال الحق في حرية الصحافة تتجه الى التضييق في مجال التجريم وفي صورة التجريم عدم إقرار عقوبات سالبة للحرية.بالرجوع للقانون رقم 76 لسنة 1972، يمكن الجزم بكون النص بعيد عن احترام تلك الحقوق والمعايير لما تميز به من عدم دقة وكثرة جرائم وعقوبات سجنية قاسية تتعارض ودولة القانون والمؤسسات وحقوق الإنسان ليكون مثالا للدولة البوليسية القمعيةيقر القانون مثلا عقوبة سالبة للحرية من اجل نشر بعض المحتويات المتنوعة و نجد بمادته التسعة والعشرون صياغة فضفاضة لا تناسب التجريم والعقاب أي النص الجزائي الذي يجب أن تحدد بوضوح أركان الجريمة مادية كانت او معنوية، فمن قبيل المحتويات الممنوع نشرها نجد مصطلحات من قبيل التشكيك في أهداف الثورة ومبادئها و الدعوة إلى حكم الطبقة أو الفرد و السلبي من أي موضوع أو قضية وتجاهل الجانب الإيجابي بقصد تضليل للجماهيرو ما يثير فتنة المذاهب أو الثأر أو دعوة الجاهلية وهي كلها مصطلحات ذات مفاهيم واسعة وفضفاضة تتعارض وخصوصيات النص الجزائي و حتى مبدأ شرعية الجرائم والعقوبات فضلا عن تعارضها مع الحق في حرية الرأي خاصة اذا ما علمنا ان النيابة العمومية التي تملك سلطة الإحالة و الإدارة التي تملك سلطة إيقاف المطبوعة هما من سيؤول تلك النصوص بما يفتح الباب على مصراعيه لتوظيف تلك النصوص سياسيا للتهديد الصحافيين او التنكيل بهم حتى بمجرد الإحالة و تصريح القضاء بعدم وجود جريمة.اما العقوبات السجنية العديدة التي احتواها القانون فهي تتميز كذلك بالشدة وعدم التلاؤم بين الفعل المجرم و العقوبة المقررة ففي حين تتفادى الاتجاهات التشريعية الحديثة إقرار عقوبات سجنية للصحفيين وغيرهم في إطار احترام حرية الصحافة والتعبير، نجد أن قانون المطبوعات الليبي لسنة 1972 يعتمد أساسا على الجانب الردعي حتى لضمان ابسط الالتزامات فالعقوبة قد تصل إلى السجن بشهر كامل لعدم اعلام الإدارة بتحيين تركيبة مجلس الإدارة فضلا عن الخطية المالية مثلا في المادة 14 وتصل العقوبة الى ما لا يقل عن ستة أشهر وغرامة لعدم الامتثال لتعليمات الإدارة في نشر تصحيح او تكذيب حسب المادة 18 التي ترفع العقاب الى ما لا يقل عن سنة كاملة وغرامة من أجل نشر خبر كاذب بسوء نية و الحكم بالسجن هنا حتمي في صورة الإدانةوفي نفس السياق فإن عدم احترام بعض الالتزامات الإدارية كالحصول على بطاقة صحفي للمحررين والمصورين والمراسلين جريمة جزائها الحبس لما لا يقل عن ستة أشهر و غرامة حسب المادة 25 و تقرر المادة 26 نفس العقاب للمراسلين الأجانب الغير مرخص لهم فيما ترفع المادة 28 مدة الحبس المقررة الى ما لا يقل عن سنتين وغرامة من اجل نشر او توزيع مطبوعة اجنبية مصادرة او ممنوعة من الدخول الى ليبيا بينما لا تحدد المادة 29 أصلا مدة قصوى للعقوبة السجنية من أجل نشر ما تمنعه تلك المادة من محتوى في مصادرة صريحة للحق في حرية الراي مع اعمال ما قد يقرر من عقوبات أشد في نصوص أخرى حسب تلك المادة .تمثل المادة 36 نموذجا فريدا للتعسف في التجريم والعقاب، اذ تقر عقوبة بستة أشهر حبس وغرامة لمن يبيع دون ترخيص دوريات او شبه دوريات والحال أن الوقائع المجرمة على فرض إمكانية اعتبارها أعمال غير قانونية رغم انها ممارسة لحرية النشر المقررة بالإعلان الدستوري فهي لا تعدو ان تكون مخالفة إدارية تستوجب على الأقصى عقوبة على معنى القانون الإداري لا الجزائي.ولم يخل تنظيم الطباعة والنشر من تلك الأحكام الجزائية والعقوبات السالبة من الحرية بما يجعل النص برمته مخالفا للإعلان الدستوري وما أقره خاصة في مادته الرابعة عشر من إقرار للحق في حرية الصحافة والطباعة والنشر.
الاعتداء الصريح على حق حرية الرأي والتعبير
لم تقف التضييقيات على الحقوق الدستورية التي نتناولها بالدراسة في قانون 76 لسنة 1972 عند الإجراءات والشكليات و التجريم والعقاب بل تعدتها الى مصادرة صريحة لحرية الرأي والتعبير بما يستحيل معه التعايش بين ذلك القانون الجزري و القمعي و الإعلان الدستوري لسنة 2011.لم يتورع واضعوا قانون 76 لسنة 1972 على مصادرة حرية الراي بل وإقرار ذلك كمعيار لحرمان فئة من الموطنين منها ومن صور ذلك أنه لملكية دورية او شبه دورية لا بد أن يكون الشخص مؤمنا بالثورة العربية وملتزما بأهدافها وأهداف ومبادئ العمل في الاتحاد الاشتراكي العربي حسب المادة 5.أ.2 من قانون المطبوعات وهو شرط لا يتصور حتى استمرار بقاءه في ظل الإعلان الدستوري لما يتضمنه من خرق وإقرار صريح بمنع فئة من الليبيين من حقهم في امتلاك دوريات أو شبه دوريات و تمميزهم على أساس رايهم او انتمائاتهم السياسية ونفس الشروط والتحليل ينسحب على رؤساء التحرير والمحررين و حسب المادة 6يأخذ المنع شكلا أكثر صراحة مع المادة 29 من قانون المطبوعات وهي مادة تمنع بشكل واضح وصريح بعض المواد إن كان قد يقبل التضييق في شأنها من حق حرية الصحافة لغاية تخدم المصلحة العامة في نظام ديمقراطي إلا أن بعضها الآخر لا يمثل الا قمعا صريحا لتنافي غاياته و الحق في العمل الصحفي بل و دور الصحافة في المجتمع .تتعدد الأمثلة في المادة 29 المذكورة ومنها مثلا مداولات وقرارات مجلس قيادة الثورة ومجلس الوزراء إلا بإذن من الجهات المختصة و التعريفة الجمركية أو قرارات لجان التموين المتعلقة بالتسعيرة أو أجور الاستيراد أو القرارات المتعلقة بالعملة وذلك قبل الإذن بنشرها والحال ان من صميم دور الصحافة تغطية النشاط الحكومي و الاداري و لا تحتاج الا اذن الا بالنسبة للوثائق المصنفة سرية لغايات تتعلق بالنظام العام و قانون 1972 يتجاهل بذلك حق المواطن في المعلومة و حقه في الديمقراطية المنصوص عليه بالفصل 1 من الإعلان الدستوري فضلا عن الدور المتدهور للصحافة لان تلعبه خاصة في انارة الرأي العام لما قد تخفيه الحكومات لاخفاء فشلها او خرقها للقانون وهي غايات تتنافى و الغايات المشروعة من تقييد حرية الصحافة والتعبير والنشر .تمنع المادة 29 كذلك التشكيك في أهداف الثورة ومبادئها والدعوة إلى حكم الطبقة أو الفرد والحال ان الثورة المعنية بذلك القانون انتهت الى نظام استبدادي ثار عليه الشعب الليبي، وما إعلان 2011 الدستوري إلا تجسيد للقطع مع تلك الثورة التي يحميها قانون المطبوعات لسنة 1972 ولا يمكن بحال بعد نفاذ الإعلان الدستوري وما ضمنه من حقوق أن يقع قبول منع نشر في التشكيك بأي ثورة أو حدث سياسي او تاريخي الا إذا تعلق طبعا باحترام المعتقدات الدينية.في نفس السياق لم تكتفي المادة 29 بجعل مواد ممنوعة من النشر بل تدخلت حتى في طريقة تناول المواضيع في الصحافة اذ نصت على ان الجانب السلبي من أي موضوع أو قضية وتجاهل الجانب الإيجابي بقصد تضليل للجماهير ممنوع من النشر، أي ان المادة التي تجرم وتعاقب بالسجن على المخالفة تعدم نهائيا إمكانية ممارسة الصحافة لاهم أدوارها في سياق ديمقراطي وهو النقد والانتقاد مع ما يمثل ذلك من اعتداء على حرية الرأي و التعبير اذ ان القانون يوجب على الصحفي إثارة الجوانب الإيجابية أي يوظفه لصالح الأنظمة القائمة بما يزيل عن العمل الصحفي وحتى الفكري أي معنى .كما تجرم المادة 29 من قانون المطبوعات أعمال الصحفي حسب نتائجها واثارها أي انه مدعو قبل أي نشر الى معرفة اثار رايه او تناوله للموضوع ويقرأ في معرض المواد الممنوعة و المجرمة ما يثير فتنة المذاهب أو الثأر أو دعوة الجاهلية و الأخبار التي من شأنها خفض قيمة العملة الوطنية أو سندات القروض الحكومية أو الإخلال بالثقة في الداخل أو الخارج وهي طبعا مقتضيات تشرع لخرق حقوق الإنسان بصفة ممنهجة وآلية و لا علاقة لها بحرية الصحافة أو الراي او التعبير او النظام الديمقراطي و تليق باي نظام قمعي شمولي.
الجزء الثاني: وجوب الإقرار بعدم دستورية قانون المطبوعات
بعد استعراض بعض أوجه تعارض قانون المطبوعات لسنة 1972 والإعلان الدستوري لسنة 2011 وما يقتضيه من مراعاة للاتفاقيات الدولية التي صادقت عليها الدولة الليبية وخاصة العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية والميثاق الأفريقي لحقوق الإنسان والشعوب بما يغني عن مزيد الاستدلال حول تعارض القانون المذكور والإعلان الدستوري، يتجه التساؤل عن آثار عدم التلاؤم بين النصين بين القانون (1) والواقع (2)
آثارالتعارض: قانون المطبوعات مع الدستور
من النافل التذكير ان الإعلان الدستوري يتبوأ مرتبة أرفع من القوانين العادية بما يجعله هو النص الواجب اتباعه في صورة التعارض تطبيقا لمبدأ سمو القاعدة الدستورية، خاصة أن الأمر ينطوي كذلك على خرق لاتفاقيات دولية صادقت عليها الدولة الليبية وهي نصوص تفوق القوانين العادية منزلة وإن كانت تحت الدستور بما يعني ان التعارض بينها وبين القانون العادي لا يحسم إلا لصالحها لأن النص الأدنى لا يخالف النص الأعلى عملا بالقاعدة العامة لهرمية النصوص القانونية.ان التبني الدستوري للحق في الصحافة والحق في حرية الطباعة والنشر وبصفة أعم الحق في الرأي والتعبير يوجب نظريا اعتبار النصوص الأدنى منسوخة بالاستيعاب أو ضمنيا.هذا التبني الدستوري لتلك الحقوق لم يمثل نسخا ضمنيا لتلك النصوص القديمة البالية ودعوة لتجاوزها بنصوص جديدة تبلور مفهوم الدولة الديمقراطية على معنى المادة الأولى من الإعلان المحترمة للحقوق والحريات، بل تجاوز ذلك الى تنظيم الفترة الانتقالية أي الفترة بين بداية نفاذ الإعلان الدستوري وسن التشاريع الجديدة التي يوجبها.شكلت الفقرة الثانية من المادة 35 من الإعلان الدستوري النظام القانوني الواجب التطبيق في تلك الفترة الانتقالية اذ نصت على: »يستمر العمل بجميع الأحكام بالتشريعات القائمة فيما لا يتعارض مع احكام هذا الإعلان الى ان يصدر ما يلغيها أو يعدلها « .اقر الإعلان إذا في أحكامه الانتقالية تصنيفا للتشريعات السابقة له القائمة على التمييز بين صنفين:- صنف أول من التشاريع لا يتعارض مع ما جاء به الإعلان الدستوري وحكمه تواصل النفاذ الى ان يصدر ما يخالف تعديلها او الغائها .- صنف ثان من التشاريع يتعارض مع ما جاء به الإعلان الدستوري وحكمة بأعمال مفهوم المخالفة هو إيقاف العمل والنفاذ به، فهو لا يستمر لتعارضه مع الإعلان.النظام القانوني الذي وضعته المادة 35 فقرة ثانية هو نظام بسيط وغير معقد يقوم على الفرز بين التشاريع حسب التطابق والتعارض مع ما جاء الإعلان الدستوري.ودون مزيد من استعراض للحجج القانونية على وجوب اعتبار القانون المطبوعات ملغى نهتم بما هو عليه الأمر واقعا.
التعارض كأمر واقع
عرفت ليبيا بعد الثورة وصدور الإعلان الدستوري مرحلتين فيما يخص حرية الرأي والتعبير والصحافة والطباعة والنشرتميزت المرحلة الأولى بفيض من الحريات وعرف المشهد الإعلامي و المواطني والجمعياتي ثورة موازية في المجال اذ تعددت وسائل ووسائط الإعلام من صحافة تقليدية مكتوبة ومسموعة ومقروءة ومرئية كما أصبحت الصحافة أقرب الى النشاط إذا أصبح العديد من المواطنين، إضافة إلى الصحفيين ووسائل الإعلام، يمارسون ما توفر لهم من حرية رأي وتعبير وصحافة واعلام نشر ورقي ورقمي دون أي رقابة حقيقية نظرا لضعف السلطة المركزية او غيابها.على غرار أغلب الحقوق والحريات الواقع تبنيها من الإعلان الدستوري لسنة 2011 والتي تمتع بها الليبيون واقعا، لم يتجاوز ذلك الإصلاح الوارد بالإعلان حد اعلان النوايا او التبني الدستوري وان مورست واقعا اذ لم يتبع ذلك لأسباب مختلفة كإرساء تلك القواعد الضامنة لحقوق الإنسان في القوانين العادية التي لم يقع تعديلها او الغائها، بل بقيت كنصوص مهجورة نسبيا وذلك بالرغم من الواجب الصريح الذي تضمنته المادة 2.35 من الإعلان الدستوري على السلطة التشريعية بتعديل التشاريع القديمة الغير متناسبة مع ما جاء به.تعززت الحاجة الى قوانين جديدة بصدور قانون العدالة الانتقالية رقم 29 في 2013، الذي نص صراحة في المادة 6[5] على بطلان وعدم شرعية جميع التشريعات الجائرة الصادرة قبل 2011 الا ان هذا القانون لم يغير من عدم استجابة السلطة التشريعية لما أوجبه الإعلان الدستوري في شيء.كان من المنتظر أن تفتح السلطة التشريعية حظيرة قانونية لكثرة النصوص الواجب تغييرها أو تعديلها على غرار قانون المطبوعات الا ان العقم التشريعي في هذا المجال جعل من حقوق الإنسان الدستورية في ليبيا مكرسة واقعية لا مؤسساتيا بما أضعف احترام تلك الحقوق بعد الزخم الثوري الذي عرفته البلاد وهو ما ميز المرحلة الثانية.بعد مدة من المد الثوري ومع استتاب الأمن نسبيا و استقرار نوعا ما للعمل الحكومي، سرعان ما لجأت الحكومات والإدارات الى العودة الى ترسانة النصوص القديمة التي تمثل الحل الانجع والاسهل بما توفره من واجبات اقل للإدارة و الحكومات في مجال حقوق الإنسان ومن هامش قرار وصلاحيات واسعة في جانبها وهو ما يمكن اعتباره ردة في الجانب الحقوقي و تنصلا لواجبات الدولة الليبية في المجال.تتأكد فكرة الردة أو التراجع بالنسبة لقانون المطبوعات رقم 76 لسنة 1972 ذلك أن الدولة الليبية سبق وان اكدت تعارض ذلك القانون والقواعد الدستورية والاتفاقيات الدولية المصادق عليها من قبل الدولة الليبية وذلك بمناسبة التقرير الدوري الشامل لحقوق الإنسان للدولة الليبية أمام لجنة الأمم المتحدة لحقوق الإنسان الدورة الثانية والعشرين من 04 الى 15 اذار /ماي 2015 إذ تقدمت الدولة الليبية بتقريرها الوطني والذي نص في معرض بيان تفاعل الدولة الليبية مع توصية متعلقة بحرية التعبير أنه بموجب المادة 35 من الإعلان الدستوري ووقع إلغاء القانون رقم 76 لسنة 1972 .الا ان الواقع المعاش في ليبيا يؤكد العكس أي ان الحكومات والإدارة لا تزال تتمسك بالقانون المخالف للحقوق الدستورية المضمونة بالإعلان الدستوري لسنة 2011 وان كان تمسك الإدارة و الحكومات بذلك القانون مدانا ويعبر عن عدم التزامها بمبادئ الثورة المجسدة في القواعد الدستورية إلا أن ذلك قد يفهم من السلطة التنفيذية لما يوفر لها من تقنيات وآليات مراقبة وهامش صلاحيات يمكن توظيفها سياسيا في اتجاه قمع الآراء المزعجة و العمل الصحفي الغير مرغوب فيه .الانكى والأخطر هو أن تنخرط السلطة القضائية في مسار تجاهل حقوق الإنسان المضمونة دستوريا و تعتمد القانون رقم 76 لسنة 1972 كاساس للاحالة من طرف النيابة العامة و للادانة من المحاكم الجزائية في رجوع مطرد لتكريس القضاء وتوظيفه كجهاز لدى السلط القائمة لا كسلطة قائمة مستقلة كما يقتضي ذلك ما ورد بالمادة الأولى من الإعلان الدستوري من ديمقراطية للدولة.إن صدور احكام سالبة للحرية عن المحاكم الليبية على أساس قانون المطبوعات مؤشر خطير على تدهور مستوى احترام القواعد الدستورية من محاكم الأصل في ليبيا و احترام الاتفاقيات الدولية المصادق عليها من الدولة الليبية علما وأن التزام الدولة الليبية يشمل التزام سلطها الثلاث ولا يقتصر الامر على السلطة التشريعية او التنفيذية حصرا خاصة وان في احترام تلك الاتفاقيات احترام للقواعد الدستورية الليبية الوارد بالمواد 1 و 7 و 19.أن إيقاف نزيف خرق مقتضيات تلك المواد الدستورية وخاصة ما جاء بالمادة 2.35 بات ضروريا لإنقاذ حرية الرأي والتعبير في ليبيا بما في ذلك الحق في حرية الصحافة والطباعة والنشر إذ لا يمكن تحقيق او تأسيس دولة ديمقراطية على معنى المادة الأولى من الإعلان الدستوري بنصوص لدولة شمولية و قمعية على غرار قانون 76 لسنة 2011 بل وقلب القاعدة ليصبح ذلك القانون القمعي اعلى من الإعلان الدستوري ذاته مع ما يمثل ذلك من انتهاكات منهجية وبالجملة لحقوق الإنسان وتهديدا لأهداف الثورة الليبية و العيش المشترك.تبدو مهمة المحكمة العليا مصيرية بالنسبة لحق الرأي والتعبير وحرية الصحافة والطباعة والنشر و البعد الاستراتيجي للدفع أمامها بعدم دستورية اعتماد القانون رقم 76 لسنة 1972 متأكد رغم وضوح نص الإعلان الدستوري شكلا وموضوعا، ذلك أن موقف المحكمة العليا يتجاوز الفصل في نزاع دستوري ليمثل إعادة تعديل النظام القانوني في ليبيا بما يخدم متطلبات دولة ديمقراطية على معنى المادة الأولى من الإعلان الدستوري لسنة 2011 وفي مستوى تطلعات الشعب الليبي لدولة قانون ومؤسسات تحترم دستورها و الحقوق و الحريات التي يضمنها و تقطع مع إرث استبدادي لدولة شمولية .